|
معرفة الشعوب لأعدائها .. انتصار دفعنا ثمنه غالياً

طالما اعتقدنا أن التغيرات الكبيرة في العالم تحدث تدرجا ففاجأتنا بحضورها بلا استئذان ودون مقدمات تذكر.


 ولعل أغلبنا بات متأكدا أن العالم لن يبقى كما هو مطلقا بعد الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط وما قبلها من ثورات وثورات مضادة، وأن أثر ما يحدث لن يبقى منحصرا في منطقتنا أبدا، بل سينتقل كموجة تسونامي ليعم العالم أجمع، وأنه بداية التغيير ومركزه فقط.


ليس علينا أن نتشاءم بالتأكيد ونحن نرى أن تشكيل العالم الجديد يحدث بترتيب لم نتخيله، فالركود في المستنقعات لا يزيدها إلا نتانة، ولن ينفع مستنقعنا إلا حركات تغيير كبيرة لعلنا نتفاءل لو قلنا إنها بدأت.


صعود تركيا وبروزها كقوة فاعلة مؤثرة، وثورات الربيع العربي التي فاجأت العالم وأربكت حساباته، وفشل استقرار الثورات المضادة رغم الدعم العالمي منقطع النظير، والحصار على قطر وما نتج وينتج عنه، كلها مبشرات أن العالم لن يبقى كما هو بعد اليوم.


وربما نجد أن إدراك الشعوب التي بدأت بثورات الربيع عدوها الحقيقي الذي وقف ضد تطلعاتها بغض الطرف تارة وبدعم الثورات المضادة تارة أخرى، وبالتحضير لانقلابات على حكومات اختارتها هو الأهم في المرحلة المقبلة.


يقول سيد قطب في دراسات إسلامية:


"إننا ننسى أن العالم الأوربي والعالم الأمريكي يقفان صفًا واحدًا بإزاء العالم الإسلامي، والروح الصليبية القديمة هي هي ما تزال، إننا ننسى هذا لأن فينا مغفلين كثيرين ومغرضين كثيرين يضللوننا، وينشرون دعاية مغرضة عن رغبة أمريكا في إنصاف الشعوب المستعبدة ومساعدة الشعوب المتأخرة، مع أننا ذقنا الويل من أمريكا في فلسطين، إن جراحات العالم الإسلامي تنبض بالدم في كل مكان، وأمريكا واقفة تتفرج، ومع هذا توجد صحف ويوجد ناس: يتحدثون عن تمثال الحرية فى ميناء نيويورك".


سوف تتخيل لوهلة أنها كلمات قيلت حول موقف الولايات المتحدة وأوروبا من ثورات الربيع العربي الحالية، وقد يدهشك أنها قيلت منذ عقود، فما أشبه اليوم بالبارحة.


ولا يغفل عاقل عن أن شعوب الربيع العربي كانت حسنة الظن جدا بالمجتمع الدولي وعلى رأسه بالتأكيد الولايات المتحدة الأمريكية، معتقدة ببراءة نقية ولوهلة أنه سيدعم نضالها، ورغباتها، وتطلعاتها، بل واختياراتها التي أفرزتها صناديق الاقتراع، ثم صقعت أمالها وأحلامها كمُّ المؤامرات التي أطاحت بتلك الثورات، والدعم المستميت للثورات المضادة فيها، والمخططات المعلنة وغير المعلنة لتقسيم البلدان إلى دويلات لا تكاد تصمد أمام تهديد، وإشعال نار الحروب الطائفية إمعانا في تدميرها وإضعافها، وسحقا لأي إرادة حرة فيها لزمان يطول.


فلو تأملنا الموقف الأمريكي من الثورات العربية لوجدنا أن ست سنوات من القتل والدمار والتهجير للشعب السوري لم تحرك ساكنا في ضمير الولايات المتحدة، بل على العكس ساهمت القوى العظمى في هذا العالم بدعم مليشيات الـ ب ي د بأسلحة متطورة لضمان تقسيم البلاد، وسكتت سكوتا مطبقا عن الجرائم التي يرتكبها النظام وحلفاءه بحق الشعب، وأنها في مصر دعمت انقلاب السيسي على الحكومة المنتخبة عبر صناديق اقتراع نزيهة، وأنها أعدت لانقلاب تركيا الذي أفشلته عناية ربانية ووعي الشعب، وأن أيديها لم تكن بعيدة عن ليبيا واليمن.


لم تتغير نظرة أوروبا والعم سام إلى العالم الإسلامي منذ الحروب الصليبية، وما زالت كما ذكرها الدكتور محمد عمارة نقلا عن كتاب "تاريخ الحروب المقدسة في الشرق المدعوة حرب الصليب"، والذي كتبه رجل دين مسيحي "مكسيموس مونروند"، وترجمه رجل دين مسيحي "مكسيموس مظلوم"، وطبع في القدس عام 1865م، يقول فيها البابا الذهبي في خطبته أمام  فرسان الإقطاع الأوربيين عام 1905م بمدينة "كليرمونت" بجنوبي فرنسا حين خطب فيهم فقال: "يا من كنتم لصوصا كونوا اليوم جنودا، لقد آن الزمان الذي فيه تحولون ضد الإسلام الأسلحة التي تستخدمونها ضد بعضكم البعض، فالحرب المقدسة المعتمدة الآن هي في حق الله عينه، وليست لاكتساب مدينة واحدة، بل هي أقاليم آسيا بجملتها، مع غناها وخزائنها التي لا تحصى، فاتحدوا لحجة القبر المقدس، وخلصوا الأراضي المقدسة من أيادي المختلسين، وامتلكوها أنتم لذواتكم، فهذه الأرض - حسب ألفاظ التوارة - تفيض لبنا وعسلا، ومدينة أورشليم هي قطب الأرض المذكورة، وخصوبة هذه الأرض تشابه فردوسا سماويا، اذهبوا وحاربوا البربر (أي المسلمين) لتخليص الأراضي المقدسة من استيلائهم، امضوا متسلحين بسيف مفاتيح البطرسية (أي مفاتيح الجنة التي صنعها البابا لفرسان الإقطاع) واكتسبوا لذواتكم خزائن المكافآت السماوية الأبدية، وإذا أنتم انتصرتم على أعدائكم فالملك الشرقي يكون لكم ميراثا، وهذا هو الوقت الذي تفدون فيه كثرة العدوانات التي مارستموها، والتي صبغت أيديكم بالدماء، فاغسلوها بدماء غير المؤمنين (أي المسلمين).


هذه هي النظرة إلينا كشعوب ضالة تستحق القتل بجدارة، وإلى بلادنا كخزائن من الثروات منذ الحروب الصليبية والتي تمت هزيمتها على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، فعادت مع سايكس بيكو في احتلال مباشر تحت اسم الانتداب بعد أن تم التخلص من الخلافة الإسلامية كمانع قوي من نهب واستعباد البلاد وأهلها، ثم ارتأت الامبريالية الجديدة أن هناك طرقا أفضل لخوض المعارك بالوكالة، أكثر توفيرا للمال والرجال، وتتيح لها التفرغ للاستمتاع بالغنائم والأموال، فكانت الحكومات العميلة، والانقلابات، وإثارة الحروب والنعرات الطائفية كمفتاح سحري، والدعم الخفي للمتشددين، وها هو أسلوب جديد أخر يتم الكشف عنه وهو التحريض على الدول التي لم تنصاع لأوامر العم سام، ولم تقدم الإتاوات كما يجب، عبر اتهامها بدعم الإرهاب.


لا زلنا متفائلين أن الغلبة لهذا الدين، وأن وراء الظلمة فجر قادم، ولعل في حصار قطر بداية له كما يصرح الكثير من المحللين، إضافة إلى إيماننا المطلق بأن لا شيء يمكن أن يخدع الشعوب من جديد، وليس ثمة ما يمحو وعيها مرة أخرى، وإن أسكتها القمع لفترة فلا بد من لحظة انفجار كتلك التي لم نكن حتى لنفكر في تخيلها في ثورات الربيع العربي بعد طول قمع وترهيب.

#انتصار
#الربيع العربي
#ثورات
7 yıl önce
معرفة الشعوب لأعدائها .. انتصار دفعنا ثمنه غالياً
إيران.. خطر لم ندرك حجمه بعد
إبادة غزة.. المهمة الحضارية الجديدة لبريطانيا والولايات المتحدة
هل رؤية حزب الشعب الجمهوري للجامعات تتفق مع رؤية تانجو أوزجان؟
أولياء بخارى
المجلس السياسي لحزب العدالة والتنمية لربع قرن