|
عندما يستنفذ الكلام قوته​

نحن أمام وضع يدعو للقلق: الكلام يفقد معناه، وتُفرّغ المفاهيم من مضمونها. إن أهم وسيلة للتواصل مع الناس هي الكلمة، فلم يعد لها ذلك التأثير، تحولت إلى مجرد مفردات تافهة من بعد أن فقدت عمقها وقوتها.



لاأذكر عهدا بلغت فيه الكلمة قوتها المؤثرة، وفقدت معانيها العميقة. ليذكرنا من يعرف. إن المسؤول الأكبر عن هذا الوضع هو عالم السياسة والإعلام. وفي الوقت نفسه، فإن المتضرر الأكبر من هذا الوضع هم المشتغلون في عالم السياسة والإعلام. لقد استهلكوا كل مافي الكلام من بساطة، وجمال، وعمق، ومعنى. لم يتبقى من الكلام سوى ما يُستعمل في المياه الضحلة، التي لامعنى لها.



كيف يستنفذ الكلام قوته؟ كيف يستنفذ الكلام قوته، وكيف تُفرّغ المفاهيم من مضمونها؟ علينا التفكير مليّا في هذا الخصوص. يوجد أجدر مني من يتكلم في هذا المجال، في الأصل يجب الاستماع لهم. ولكن لابأس من الإدلاء برأيي في هذا الشأن. لنبدأ في السياسة. يقولون إن 'إن السياسة هي فن الكلام'. ويقال عنها أيضا البلاغة. إن مهرة الكلام، وفناني الكلام، هم من يضيفون قوة إلى السياسة، وهم من يجعلون الكلام يرتقي. إن الذكاء، والثقافة، والظرافة والنضج السياسي التي تصنعه الكلمة، هو في الأصل القوة الأهم عند السياسيين. إن قوة الكلام يحصل في أشياء ثلاثة: أولا: القائل للكلمة ثانيا: الفكر الذي تتشكل منه الكلمة ثالثا: اختيار المفردات الصحيحة للكلام. أي عنصر يضعف من هذه العناصر، فإن الكلام في املقابل يضعف. بقدر مايكون كلام السياسي محترما، وقويا، ويدخل قلوب الناس، يكون الكلام قويا بهذا القدر. وإذا لم يدخل كلام السياسي قلوب الناس، فلن يجدي كلامه شيئا مهما حاول. إن أصعب الألفاظ، وأصعب اللحظات عند السياسي، هي في اختياره للكلمات التي سيستعملها في الظروف الحرجة. عليه أن أن يتزود بمخزون كبير منها، لأنها هي الكلمات التي سترتقي به إلى درجة أعلى. فمثلا لو قال السياسي عن أحدهم إنه'بطل' فلا شك أن لهذه الكلمة معنى. ولو قال عن أحدهم إنه'خائن'، فمعنى ذلك أنه قال كلمة مهمة تهتز منها الجبال. لأن الخيانة، كلمة مصيرية. فلو أن السياسي قال عن كل من يصادفه'بطل'، أو يعلن عن أحدهم بشكل دائم إنه'خائن'، وقتها يحصل تضخم في الكلام ويفقد قيمته. وهكذا تُفرّغ المفاهيم من المضامين.



الكلام الذي يخرج من شفاه السياسي



لنعط مثالين رمزيين: أولا: رئيس وزراء إنكلترا كاميرون، أعلن عن أحد السياسيين الإنكليز، أنه خائن ويعمل مع أعداء الإنكليز ضد إنكلترا. ثانيا: رئيس الحزب المعارض في فرنسا ساركوزي، أعلن عبر تويتر عن رئيس البلاد هولاند أنه مزّق الدولة، وباعها للأميركان، ووصفه بالخائن. الآن لنفكر، ما الذي سيحصل في البلدين عندما يقال مثل هذا الكلام، بل ما الذي سيحصل في أوروبا، أو في العالم؟ يحصل زلزال شديد، أليس كذلك؟ لأن هؤلاء السياسيين لايستعملون دائما مثل هذا الكلام. وإن قالوه فلا بد من عمل شيء حياله. هنا نجد وضعا آخرَ يصادفنا: الكلام، متى ماخرج من شفاه السياسي، فإما أن يكسب أهمية، وإما أن يفقد قيمته. فإن قام السياسي بعمل شيء على موجب كلامه، فهنا تزيد قيمته. في المقابل لو قاله مجرد كلام عابر، ولم يتخذ خطوات حياله، فإنه يفقد قوته، ويصبح لاقيمة له.



هل نزل الإعلام للحضيض؟



لنأتِ على الإعلام. نحن نكسب لقمة عيشنا من الكلام. منا من يكتب، ومنا من يتكلم لكن كلنا عملنا من خلال الكلام. يوجد منا مهرة في الإعلام، هؤلاء أيضا كما في السياسة، عليهم أن يتخيروا الكلام الطيب لرفع مستوى عملهم.



إن وضع الإعلام في تركيا، هو أسوأ من وضع السياسة. في الأغلب أننا اقتربنا من الحضيض، أو أننا نزلنا إلى الحضيض من غير أن نعلم. فالكلام فقد قوته أكثر مافقدها في الإعلام، والمفاهيم أكثر مكان فُرّغت فيه من مضامينها هي أيضا في الإعلام. فلم يعد الماهر في الكلام هو المحترم، بل المحترم هو كاتب الزاوية الذي يشتم أكثر، ومن يهدد أكثر، ومن يهين أكثر. لماذا يوجد كاتب زاوية يهين؟ يعود هذا لسببين: الأول: يشتم لأنه لايقدر أن يبتكر فكرا. الثاني: يُكافأ على قدر ما يشتم. لو طبقنا هذا على الصحف، فنستطيع القول: 'يشتم من لايستطيع صنع الخبر'.



ما الذي يحدث في الصحف الأميركية؟



من أجل شرح وضعنا، علينا أن نفترض مثاليْن مختلفين: الأول: لو قامت صحيفة فيلادفيا تايم بكتابة عنوان عريض تخاطب فيه الرئيس أوباما بهذا الشكل: احذر ياحسين، "إن ابنتك تسرق". الثاني: لو كتب الكاتب في صحيفة نييورك تايم توماس فليمينج، منتقدا السياسة الخارجية الأميركية بهذا الشكل: "الجيش الأميركي مسؤول عن قتل المدنيين في أفغانستان، والعراق، وسورية، فأنت قاتل تلطخت أيديك بالدماء". الآن لنقف ونفكر: ما الذي سيتركه مثل هذا الكلام في أميركة، أو في العالم كله من صحيفة أو كاتب يخاطب الرئيس الأميركي باسمه الأول، ويصف الجيش بالقاتل الملطخة أيديه بالدماء، ويقول عن ابنة الرئيس إنها حرامية؟ يحدث زلزال عنيف، أليس كذلك؟ لأنكم لو قلتم مثل هذا الكلام وهو عارٍ عن الصحة، فإنكم ستفقدون عملكم، وتسودّ الدنيا أمامكم. وإن كان صحيحا ن فعليكم إثبات ذلك، وقتها سيكون حدثا كبيرا، ولكن عندها ستتعرضون للشتم اللاذع، وتوضعون في الحضيض.



لو كان العكس، ونلتم مكافأة من مؤسسات العمل، وأصبحتم مقربين من المعارضة، ونلتم رضى القراء، ونلتم الثناء، وقتها سيستمر الناس في كتابة مثل هذه الكتابات والأخبار.



ما الذي يحدث لو استُنفذ الكلام؟



لو استنفذ الكلام، تبدأ الإهانات، تزداد الاتهامات، ينتشر الكذب. عندما ينتهي الكلام يبدأ العنف. عندما ينتهي الكلام تغيب العدالة، وتتأجج مشاعر العصيان. عندما لايتفاهم الناس عن طريق الكلام، تحل الفوضى، وتزداد الشدة ضراوة، وتحصل التحزبات. إن المحافظة على قوة الكلام هو واجب الجميع. إن قوة الكلام، على المدى الطويل، بالنسبة لهذه الدولة، وهذا الشعب، يحمل أهمية كبيرة ومصيرية. بالكلام يسمو الإنسان، وبالكلام يصغُر. إن الكلام مثل لباس المرء، إما أن يجمّله، أو يجعله قبيحا.



#يني شفق
#تركيا
#آراء
9 yıl önce
عندما يستنفذ الكلام قوته​
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة
الصراع ليس بين إسرائيل وإيران بل في غزة حيث تحدث إبادة جماعية
التحرر من عبودية الأدوات والسعي لنيل رضا الله
هجوم أصفهان