|

المثقفون العرب في إسطنبول.. بداية مرحلة مشرقة من تاريخ الأمة

الكاتبة والأديبة السورية عبير النحاس في مقالها الجديد في جريدة "غرتشك حياة" ترصد الحياة الأدبية للعرب الذين يمموا وجوههم نحو إسطنبول، في هذه المدينة الفريدة التي تجمع كل المعاني بداخلها، باتت تحتضن مئات الأدباء والشعراء والكتّاب من العرب، وهذا ما دفع الكاتبة النحاس أن تكشف في مقالها عن أهمية إسطنبول بالنسبة للعرب.

Ersin Çelik
13:46 - 7/11/2018 الأربعاء
تحديث: 10:34 - 8/11/2018 الخميس
المثقفون العرب في إسطنبول.. بداية مرحلة مشرقة من تاريخ الأمة
المثقفون العرب في إسطنبول.. بداية مرحلة مشرقة من تاريخ الأمة

تذكرنا إسطنبول اليوم بما كانت عليه بيروت في الفترة ما بين عامي 1948 – 1975 عندما أصبحت ملجأ للمثقفين العرب الذين توافدوا عليها من فلسطين بعد النكبة واحتلال العدو الصهيوني لأغلب الأراضي الفلسطينية، ووصل إليها الأدباء والكتاب من سوريا إثر الانقلاب العسكري الذي قاده حزب البعث في سوريا والانقلابات العسكرية المتعددة قبله.

توجه نحوها كذلك التجار والأغنياء الفلسطينيون بعد نكبة فلسطين، وأصبح مرفأ بيروت ومطارها مركزًا لتجارة المنطقة بأكملها، ولحق بهم أغنياء سوريا الباحثون عن مكان مستقر لأموالهم وتجارتهم هربًا بها من الانقلابات العسكرية في دمشق التي لا تتوقف، وكان الانتقال الأكبر لرؤوس الأموال ليلة "الوحدة المصرية السورية".

ساهم التجار الفلسطينيون والسوريون كثيرًا في إعمار المدينة وازدهارها الاقتصادي، كما ساهم المثقفون العرب الذين وجدوا في بيروت ملجأ لهم في تألقها الثقافي عندما تجمع فيها الكتاب والأدباء والشعراء وأصحاب الريشة وأهل المسرح والفن والصحافة والساسة عمومًا.

جمعت بيروت وقتها في شوارعها وعلى مقاهيها الثقافية أسماء أدباء أصبحوا أعلامًا بارزين في الأدب العربي تألقوا في الكتابة عندما وجدوا فيها أجواء تتسم بالحرية، منهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والروائي غسان كنفاني، والسوري أنسي الحاج، والروائية السورية غادة السمان، ومحمد الماغوط، وعمر أبو ريشة، وغيرهم كثير.

نشطت حركة الصحف فيها، وأصبحت مركزًا للإنتاج الإعلامي والسينمائي والمسرحي والفن التشكيلي بكافة أنواعه، وكانت مركز تجمع للسياسيين والمقاومين والمفكرين وكل من لم يجد في وطنه العدل والحرية والأمان.

ثم فقدت بيروت ذلك كله إثر الاجتياح الإسرائيلي الذي تركها مدمرة، تبعته الحرب الأهلية التي أنهكت المدينة وأهلها، ثم احتلالها عسكريا من قبل نظام الأسد.

عندما ننظر إلى ما كانت عليه بيروت في تلك الفترة تجده واقعًا حقيقيًّا لما هي عليه إسطنبول اليوم وهي تجمع المقاومين، والساسة، والإعلاميين، والصحفيين، والكتاب، والأدباء، والمسرحيين، والفنانين التشكيليين، والموسيقيين بين أزقتها الجميلة ومقاهيها ومكتباتها.

وربما تذكرنا منطقة الفاتح في إسطنبول بشارع "الحمرا" الشهير في بيروت، والذي كان يكتظ بالمقاهي الثقافية، ويتجمع فيه الأدباء، وتنطلق منه القصائد والروايات وحتى الأخبار والتحقيقات الصحفية وأعمدة المجلات والكتب ولوحات الفن التشكيلي.

لقد وجد الأدباء والفنانون العرب في إسطنبول أمرين لم ولن يجدوهما في مدينة عربية أبدًا وهما الحرية، واجتماعهم فيها، وهما أهم ما يمكن أن يبحث عنه المثقف العربي لتبدأ رحلة الإنتاج الثقافي والأدبي والفني والعلمي الأكاديمي.

بدأ التوافد العربي إلى إسطنبول بداية عام 2012 وبلغ أوجه عام 2013 مع تزايد العنف الذي مارسته السلطات الانقلابية في مصر وحكومة الأسد في سوريا ، تبعهم مثقفو اليمن والعراق وتونس والخليج العربي تباعًا إثر التضييق الذي حل عليهم في بلدانهم بعد وصول داعش إلى العراق وبدء الحرب في اليمن.

وبدأت الأنشطة الثقافية تزداد بسرعة، والتي بدأت بمكتبة عربية واحدة ثم أصبحت اليوم عشرات المكتبات العربية التي تقوم على توفير الكتاب العربي وخدمة القارئ منها (مكتبة صفحات، ومكتبة بوكا، والشبكة العربية للأبحاث، وسراي كتاب، ومكتبة الأسرة العربية) وغيرها.

وازداد عدد دور النشرالعربية المرخصة في إسطنبول، والتي وصل عددها مؤخرًا إلى أكثر من 36 دار نشر تهتم بالكتاب العربي.

في عام 2015 ظهر أول معرض للكتاب العربي في اسطنبول والذي نظمته الشبكة العربية للدارسات في مقر اتحاد الكتاب الأتراك في منطقة السلطان أحمد، وكان حدثًا عربيًّا مفرحًا ولا ينسى.

تلاه في عام 2016 المعرض الدولي الأول للكتاب العربي، والذي نجح في استقطاب دور النشر من البلاد العربية، وبدأت ملامح إسطنبول كعاصمة للثقافة العربية تظهر من خلاله.

شاركت دور النشر العربية في معرض الكتاب التركي في cnr)) في ذلك العام أيضا، وبتسهيلات كبيرة، مما شجعهم وضاعف مشاركتهم في العام 2017، وعام 2018 في آذار/مارس ضمن مكان مخصص للكتاب العربي.

وبدأ في أيلول 2018 "المعرض الدولي للكتاب العربي" بشكل مستقل عن الكتاب التركي، ويضاهي المعارض الدولية للكتاب التي تقام في عواصم الدول العربية، وربما تفوق عليها بما يتميز به من وجوده في إسطنبول التي لا تضع فيها الدولة التركية خطوطًا حمراء على الكتب، وأيضًا يستطيع أن يقصدها الكتاب والمفكرون العرب من جميع بلدان العالم دون خوف أو تهديد بالاعتقال الذي يعانون منه لو فكروا بزيارة بعض الدول العربية التي يختلفون مع سلطاتها بالرأي.

وما زلت أذكر تمامًا أنني عندما قمت بتنظيم محاضرات وفعاليات معرض الكتاب في مارس/آذار 2018 لم أجد حاجة لدعوة المفكرين والأدباء من خارج تركيا بل كان جل الدعوات من داخل إسطنبول نفسها وكانت نحو 4 فعاليات يومية تتراوح بين ندوة ومحاضرة واكتشفت حينها كم تكتظ إسطنبول بالعقول والأقلام العربية.

وكنتيجة حتمية لتجمع الادباء بدأت الروابط والمنتديات والملتقيات الأدبية والثقافية بالانتشار وكان منها:

(اتحاد كتاب سوريا الأحرار، ملتقى الكتاب والأدباء السوريين، رابطة أدباء الأناضول، هامش البيت الثقافي السوري- بيت الإعلاميين العرب)

إضافة إلى المجلات والجرائد الورقية والإلكترونية التي انتشرت وبدأت الأقلام تتسابق للنشر فيها منها ما هو سياسي ومنها ما هو للطفل ومنها ما يجمع بين الفكر والأدب والثقافة كمجلة عطاء للأطفال وسلمى وسلام وغراس وزيتون وزيتونة وجريدة عنب بلدي وسوريتنا وغيرها من الصحف التي توقف بعضها بسبب توقف الدعم المادي لها.

وقد يكفي قول إحدى الناشطات بأن إسطنبول نصفها من الإعلاميين ونصفها من الصحفيين كتعبير منها عن عدد القنوات الإعلامية والمحطات الإذاعية التي افتتحت وتبث برامجها للجمهور العربي في تركيا وفي البلاد العربية بعد أن تم التضييق عليها في بلدانها ووجدت الحرية هنا في إسطنبول منها قناة مكملين، والرافدين، والشرق، وبلقيس وقناة سوريا، وأورينت، وإذاعة وطن، وإذاعة مسك إف إم، وإذاعة بيسان، وغيرها كثير.

وربما يلحظ المتتبع للمجموعات التي تقدم إعلانات للدورات والمحاضرات والندوات والمؤتمرات التي تقدمها مراكز البحوث والجامعات والمنظمات في إسطنبول كثافة تجعل الجمهور العربي المتواجد في إسطنبول في حيرة عند الاختيار بين ما يريد أن يحضره وما يستطيع بالفعل حضوره بسبب كثافة البرامج.

قد لا يكون هذا فقط ما يجعل إسطنبول تلك المدينة الاستثنائية في عين المثقف العربي بل هناك ما هو أهم بالتأكيد وهو أنها عاصمة الخلافة العثمانية التي ترمز إلى وحدة الامة وقوتها وشرفها والتي ضاعت بضياعها وحدتنا وقوتنا وحتى أمتنا.

تجمع إسطنبول السحر كله بالنسبة للمثقف العربي فهي إضافة لطبيعتها الساحرة والتي تجمع البحر والجبل، التاريخ والأثار والحداثة معا، وتجمع البشر من كل بلد وبيئة ولغة وديانة، ولعلها تستحق بجدارة لقب عاصمة العالم السياسية والتاريخية والثقافية والاقتصادية، وتجمع إسطنبول تاريخ العرب كاملا في وثائقها التاريخية التي تقدر بالملايين.

ربما تكون تلك الوثائق من أهم ما يجعل إسطنبول عاصمة حقيقية للثقافة والتي يقصدها بالفعل الباحثين والدارسين والأكاديميين من كل بلدان العالم للحصول على مصادر موثقة لأبحاثهم وعلومهم وربما يعرف المسؤولون عن تلك الوثائق أن الدارسين يأتون من شتى البلدان وهم يعرفون اللغة التركية والعثمانية ويعرفون ما الذي يريدونه تمامًا ومدعومين ماديا من دولهم ومراكز الأبحاث التي أرسلتهم بينما يأتي الباحث العربي غالبًا على حسابه الشخصي دون معرفة باللغة العثمانية او التركية ودون أن يمتلك خطة للبحث فيضيع بين آلاف بل ملايين الوثائق وهو أمر تتعمده أنظمة الدول العربية التابعة للاستعمار الغربي والتي تعد أول مهامها فصل العربي عن تاريخه الحقيقي و أهم ما يستميتون من أجل أن ننساه هو ذلك الزمان الذي كانت فيه أمتنا موحدة وشامخة تحت راية واحدة تمنع عن الغرب الطامع ثروات بلادنا وتحميها وتحمي كرامة العربي والمسلم بشكل عام وهو بالتأكيد زمان الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية.

يقول الدكتور مصطفى الستيتي :

" وقد رأيت كيف يأتي الباحثون من دول أوروبية ومن اليابان ومن إسرائيل وهم مزودون بتعليم جيد في مجال اللغة التركية الحديث والعثمانية، ومدعومون ماديًّا ومعنويًّا من قبل الجماعات التي أرسلتهم والمراكز العلمية التي جاؤوا منها، فيعرفون ماذا يفعلون وما هو هدفهم، بينما يُعدّ الباحثون العرب على أصابع اليد الواحدة، وأغلبهم قدم للبحث على نفقته الخاصّة فتجده مشتت الذهن والجُهد مقطوع الجناحين يكابد غلاء المعيشة وصعوبة الحياة في مدينة إسطنبول".

للأسف لقد استطاع أعداء الأمة أن يقطعوا أوصال البلدان الإسلامية بالقضاء على الخلافة العثمانية واحتلال الدول واحدة تلو الأخرى عبر مخططات وحيل استخدم فيها أبناء المسلمين أنفسهم وتم اغراءهم بالمناصب والمال ليقوموا بهدم الخلافة ووحدة الأمة وما عجزت عنه الحروب التي لم تتوقف مع الدولة العثمانية.

واستطاعوا مع الأسف محو تاريخ الأمة الحقيقي من خلال عزل تركيا، وإبعاد أهلها عن اللغة العثمانية، عندما قاموا باستبدال الحروف وتغيير اللغة.

واليوم وبعد مئة عام مضت على ضعف وهوان الأمة الإسلامية نجد ان قضاء الله وقدره قد جعل إسطنبول من جديد مكانا لتجمع المثقفين والكتاب والأدباء والأكاديميين والفنانين والمسرحيين العرب بعد أن ضاقت عليهم بلدانهم ودفعهم الظلم في بلدانهم للبحث عن الأمان والحية في عاصمة الخلافة من جديد.

وهي فرصة كبيرة لإعداد مترجمين من اللغة العثمانية إلى العربية والتركية وإعادة صياغة التاريخ الحقيقي لذلك الزمان والذي اندثر تقريبا وأصبحت مع الأسف مراجع العرب هي كتب المستشرقين الحاقدين على الإمة الإسلامية وهي اليوم من أهم الكتب التي تدرس في جامعاتنا برعاية الأنظمة الحاكمة طبعا.

وقد لا ننسى كعرب ذلك الخلاف بين مصر وإسرائيل حول "طابا" والذي لم ينتهي إلا عندما زار الرئيس المصري حسني مبارك تركيا يومها وقدمت له الحكومة التركية الوثيقة التي تثبت ان طابا مصرية، فكم من الكنوز علينا أن نخرج من هذه الوثائق وكم من الحقائق وكم من الشخصيات والأحداث والأنساب والأملاك والتواريخ.

هي سياسة طالما اتبعها المستعمرون يلخصها السياسي الأمريكي كورديل هل بقوله:

"إذا أردت أن تلغي شعبا، إبدأ بشل ذاكرته التاريخية ثم تشوه لغته وثقافته وتجعله يتبنى ثقافة أخرى غير ثقافته، ثم تلفق له تاريخا أخر غير تاريخه وتعلمه إياه عندئذ ينسى هذا الشعب من هو ومن كان، وتندثر معالم حضارته ."

ويلخصها المصطلح السياسي العسكري الاقتصادي اللاتيني الذي يقول "فرق تسد" وهو ما حدث عندما فرقت الأمة الإسلامية وقطعت أوصالها، وأصبح المستعمر الغربي وأتباعه سادتها والمتحكمين بها.

فهل يكون اجتماعنا في إسطنبول بداية لمرحلة مشرقة من تاريخ الأمة؟! ..

#عبير النحاس
#العرب في تركيا
#إسطنبول
#الأدباء العرب
#تركيا
#العالم الإسلامي
٪d سنوات قبل