لقد أقدمت تركيا اليوم على بناء قوتها للمرة الأولى منذ انهيار الدولة العثمانية، فأحيت إرثها السياسي والثقافي والجيوسياسي وكذلك طموحاتها، وتخلصت من الغبار الذي كان يعتريها وأعادت اكتشاف جيناتها السياسية.
كما أعادت فتح ملفات كل طموحاتها التي أرجأت منذ انهيار الدولة العثمانية وقيام الجمهورية، ووهبت القوة لكل مكان وكل شيء سلب منها وأخرج من نطاق تأثيرها ووضع قيد الرهن.
لقد أحيت تركيا إرادتها التي أخرست بضغوط من أمريكا وأوروبا على مر السنين لتتحول من الجبهة إلى المركز ومن الوصاية إلى الوطنية ومن العواصم الغربية إلى الأناضول ومن العقليات الدخيلة إلى عقليتها الذاتية.
لقد أدركت تركيا أنها لن تستطيع تأسيس فكرتها إلا بقدراتها الذاتية ورأت أن هي التي ستضع أسس هذه الفكرة. كما أدركت أنها لن تستطيع الصمود بعقلية القرن العشرين وأنها ستدمر نفسها إذا ما حصرت نفسها على مصيرها في القرن العشرين وأن من تعتبرهم حلفاء يستهدفون وطنها ويمثلون أكبر تهديد بالنسبة لها.
ماذا كان عليها أن تفعل وماذا كان يمكن أن تفعل؟! هل كان عليها الركوع والاستسلام؟ هل كانت سترضى بالدور المفصل لها وبالدمار؟
هل كان عليها أن تضع تعريفات لسلطة الدولة والعقلية السياسية والاقتصادية والبنية الاستخباراتية والوجود العسكري على طاولات العواصم الغربية؟ هل كانت ستستسلم لإرادتهم؟
هل كانت تركيا ستعتبر أن الأدوار التي اختاروها لها أدوارا "قومية" و"وطنية" لتكذب على نفسها وشعبها لعشرات السنين التالية؟
هل كانت تركيا ستلعب دور الجندي المتطوع الذي وضعته لها أمريكا وأوروبا والمحور الأطلسي من أجل نظام القرن الحادي والعشرين؟
هل كان ينبغي لها أن تلعب دور القوة المأجورة من أجل احتلال المنطقة والاستيلاء عليها وسلب نهبها؟ وهل كان عليها أن تثبت نفسها في هذا المكان في الوقت الذي يعاد فيه صياغة النظام الاستعماري الغربي المستمر منذ قرون؟
لو كانت فعلت ذلك حتى ما كانت لتنجو لأنها كانت هدفهم الأساسي، لأنها كانت الدولة السلجوقية والعثمانية والدولة التي رسمت ملامح المنطقة لمئات السنين وكافحت الصليبيين وحاسبت الغرب على مدار مئات السنين. لقد كان هذا التاريخ والذاكرة.
لقد كانوا سيفعلون كل ما بوسعهم كيلا يتكرر هذا ويضعفوا تركيا ويقزموها، فهذا كان مخططهم الذي وصلنا لحدودنا. ومن أجل هذا المخطط حاصرونا من العراق وسوريا ووضعوا خريطة "ممر الإرهاب" الممتد من حدود إيران إلى البحر المتوسط ومحاولات الحصار في شرق المتوسط وإقامة الجبهات المعادية لتركيا في بحر إيجة وإجراء المناورات في بحر المتوسط ومحاولات إقامة جبهة عربية بواسطة السعودية والإمارات.
إن الخطر الذي اقترب من حدودنا داخل إلى أراضينا ليلة 15 تموز عندما ضربوا تركيا من قلبها وحاولوا تنفيذ أكبر محاولة احتلال داخلي في التاريخ وهي المحاولة التي كان ينفذها "حلفاء تركيا".
لقد كانوا سيقضون على تركيا في تلك الليلة ليخرسوها لمائة عام قادمة ويدخل التهديد الحدودي إلى أراضينا وتغزو الجيوش الأجنبية الأناضول وتتحول الوصاية لاحتلال وانتداب ولا يبقى سوى تركيا الممزقة وفق النظام الدولي الجديد.
ماذا كانت ستقول تركيا لمن يقولون لها لا تنقبي عن الغاز في البحر الأسود ولا عن النفط في البحر المتوسط واسحبي أسطولك إلى قواعدك ولا ترفعي صوتك عندما نرسل جيوشنا إلى حدودك مع سوريا أو عندما نسلح جزر بحر إيجة أو نرسل رجالا يحكمون تركيا؟
ما كانت لتفعل ذلك، فإذا طأطأت رأسها كان انتحار.
لقد فعلت تركيا ما كان عليها فعله، فاستعادت وعيها وعادت لأصلها وذاكرتها وعقلها وقوتها وطموحاتها وجيناتها التاريخية.
عدنا لبناء القوة والخطوط الدفاعية والعقل والوعي
ذلك أن هذا كان أهم خطوطنا الدفاعية، بل كان الخط الدفاعي الوحيد، فهكذا تخلصنا من كل التهديدات في هذه المنطقة على مر ألف عام.
كانت تركيا تعلم أنها بهذه الطريقة تستطيع الصمود وأن إقامة خطوطها الدفاعية عند النقطة صفر من حدودها يعني نقل هذه الحدود غدا إلى داخل الأناضول.
لقد بادرت تركيا لإنشاء قوة وخط دفاعي وعقلية ووعي في غاية القوة، كما وسعت خطوطها الدفاعية وخطوط المقاومة إلى أعماق المنطقة.
لقد شكلت خطوط مقاومة مع إخوتها في القوقاز وليبيا والمناطق الجنوبية من حدودنا وقلبت رأسا على عقب كل مخططات الحصار التي حاولوا تنفيذها حولها، وفعلت وما تزال تفعل ما يلزم للمحافظة على بوابتيها الغربية والشرقية مفتوحتين.
لقد كانت تركيا من ناحية تطرح تساؤلات عن النظام الدولي وتتحول لأحد العناصر الأساسية للنظام الدولي الجديد، ومن ناحية أخرى كانت تنعش ديناميكيات المنطقة وقدرتها على إعادة إنشاء المنطقة.
لقد صدم من أتوا للحصار، إذ لم يتوقعوا تحركات تدل على القوة بهذا القدر في هذه الوقت القصير، فكانت تركيا قد أقامت محورا وطنيا أسمته "محور تركيا".
لقد تحول نموذج الزعيم الممثل في أردوغان ونموذج الدولة الممثل في تركيا إلى موجة سياسية مؤثرة في كل الدول والشعوب في المنطقة الواقعة من الأطلسي إلى الهادئ.
لكنهم لم يتوقفوا، بل حاولوا هذه المرة نقل الجبهات التي أقاموها عند النقطة صفر من حدودنا إلى داخل تركيا وأقاموا "جبهة معادية لتركيا" اختبأت تحت عباءة معارضة أردوغان.
لقد جمعوا تحت مظلة واحدة جميع الشخصيات والتيارات والأحزاب والتنظيمات التي يستهدفها الغرب بنفوذه من يمينيين ويساريين وإسلاميين وليبراليين وقوميين وتنظيمات إرهابية.
لقد جمعوا على هذه الجهة التي ليس لها أي مقدسات هذه التيارات التي لها "مقدسات" سياسية. إن هذه الجبهة تعمل بشكل حثيث ومشترك من أجل "إسقاط أردوغان"، لكن في الواقع تركيا هي التي يريدون إسقاطها وإيقاف تقدمها.
ذلك أن إسقاط أردوغان وإيقاف تقدم تركيا لم يكن مخططهم، بل إنه مخطط فرضه عليهم من قالوا "تصفية أردوغان ستكون أولى مهام الإدارة الأمريكية الجديدة" و"سندعم المعارضة التركية لإسقاط أردوغان".
لقد وقفنا على قدمينا للمرة الأولى منذ انهيار الدولة العثمانية، لكنهم تخلوا عن تركيا. فنحن نتابعها كما كنا نتابع صعود السلاجقة والعثمانيين وندعمها، لكنهم يقفون في وجهها ولا يدعمونها.
لم يدعموا تركيا في ليبيا وسوريا وقره باغ وشرق المتوسط وبحر إيجة، كما لم يمنحوها القوة بل سلبوا من قوتها وما يزالون يفعلون ذلك.
لقد فشلت كل الجبهات وستفشل هذه الجبهة كذلك وسنشهد أمورا سيكون من بينها أنهم سينسَون على تكل الجبهة التي أغلقوها على أنفسهم.
لقد انهار مخطط الدولة الموازية، ولهذا فقد شمروا عن سواعدهم لتنفيذ مخطط جديد أسموه تركيا الموازية، فأصحاب هذا المخطط يزعمون أنهم محافظون وقوميون، لكن عليهم أن يراجعوا مواقفهم مجددا.
إن كل أشكال الكفاح التي تخوضها تركيا أصبحت دولية بما فيها ما يتعلق بالسياسة الداخلية، فهذه هي الحقيقة الوحيدة التي ترسم ملامح مواقفنا، ذلك أنه لا يوجد أي حساب سياسي أو فكر شخصي مبني على فكرة الوطن تركيا.
إن تركيا ستزيد قوة بكل خبر يأتينا من القوقاز والبحر المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجة وأعماق الشرق الأوسط، وهو ما يجبرنا على التخلص من كل ما يعمي عقليتنا وإدراكنا وهويتنا وأذهاننا لندعم محور تركيا ونقف معه. ذلك أن هذا هو تصفية حساب مئات السنين وملخص كل أنواع الكفاح التي نخوضها في هذه المنطقة منذ ألف عام.
لا تسمحوا لأحد أن يفسد مزاجكم من أولئك الذين يستغلون اليأس بالداخل ويتمسكون بمواضعهم القديمة، بل ثقوا وآمنوا بتركيا!