|
مرحلة حصار أمريكا بنفسها

بدأت الولايات المتحدة بقيادة ترامب، اعتبارا من الأمس، تنفيذ برنامج العقوبات الذي أعلنته عقب انسحابها من الاتفاق النووي الإيراني. وقد صرح الرئيس الأمريكي عبر تويتر قائلا:

"تعتبر هذه أقسى عقوبات تفرض حتى اليوم، وسنرفع العقوبات إلى مستوى جديد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني. لن يستطيع من يعمل مع إيران أن يعمل مع أمريكا. أنا أريد السلام العالمي ولا شيء أقل من ذلك!"

تبدو كلمات ترامب التي يقول عبرها إنه يريد "السلام العالمي" وكأنها تستخف بعقول البشر. فنحن على علم جيدا بهذه الكلمات من خلال تصريحات الرجل عن التنظيمات الإرهابية أمثال بي كا كا التي تدعمها بلاده في تركيا وسوريا. فعدم إسقاط كلمات السلام من اللسان وعدم إسقاط الأسلحة من الأيدي يبدوان كواقعتين تتبعان بعضهما بعض في صورة علاقة سببية. فارتكاب المجازر بحق المدنيين باسم السلام وتقويض إرادة الأمم وإشعال فتيل الفوضى التي تودي بحياة الملايين باسم الديمقراطية كان دائما ما فعلته الولايات المتحدة مباشرة عقب جميع العمليات التي اضطلعت بها حتى اليوم باسم "السلام".

بيد أنه يبدو أن العقوبات التي تصرّ إدارة ترامب فرضها على إيران لن تجد هذه المرة تأييدا واسعا كما يظن الرئيس الأمريكي. فليس هناك أي دولة أعطت الحق له لإصدار قرار هذه العقوبات، فضلا عن الانسحاب من الاتفاق النووي، كما أنه ليس هناك أي دولة من دول 5+1 قد وصلت إلى قناعة أو دليل على أن إيران لم تتبع الاتفاقات التي جرى التوصل إليها حتى اليوم في المفاوضات معها بشأن برنامجها النووي.

لا يستند قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من الاتفاق إلى أي حجة محقة كعدم اتباع إيران الاتفاقات التي توصلت إليها مع الدول الغربية. بل على العكس تماما، فهي تستند إلى الوعد الذي قطعه ترامب على نفسه خلال حملته الانتخابات بأنه إذا أصبح رئيسا فسيلغي الاتفاق النووي. ولأن أحدا لم يكن يتوقع فوز ترامب، فلم تناقش جدية هذه الكلمات. غير أنه لا يوجد شيء اسمه أن يجري تغيير الاتفاقات الدولية بتغير الحكومة. بل إن فتح الباب أمام أمر كهذا كاف في حد ذاته لإفساد جميع التوازنات العالمية، وهو خطوة جنونية.

إن الشيء الذي دفع ترامب لاتخاذ قرار الانسحاب من الاتفاق الإيراني ليس مرتبطا بشكل كبير بتطور جديد متعلق بتصرفات إيران بقدر ارتباطه بالطلبات الملحة لإسرائيل واللوبيات الداعمة لها في الولايات المتحدة. وعلى كل حال، لم يبد واشنطن غير محقة أمام العالم في أي قرار اتخذته بقدر ما هي اليوم.

وإحقاقا للحق، فإن الولايات المتحدة نجحت دائما في أن تجد لنفسها طريقة لتبدو محقة في كل مرة كانت فيها غير محقة، وما أكثرها؛ إذ وجدت إلى جنبها دائما مجموعة تحالف جيدة أو سيئة. بيد أنه اليوم ليس هناك من يراها على حق سوى إسرائيل.

هذا فضلا عن أن تقريبا كل دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الدول الأطراف في الاتفاق النووي، تعطي إشارات حول أنه لا يوجد سبب للتراجع عن الاتفاق وأنها عازمة على مواصلة التبادل التجاري مع طهران. ولتأكيد وجهة النظر المشتركة للاتحاد الأوروبي في هذا الصدد، صرحت فيديريكا موغريني، الممثلة العليا للعلاقات الخارجية والسياسات الأمنية للاتحاد الأوروبي، خلال زيارة أجرتها إلى نيوزيلاندا، بأنهم يشجعون زيادة حجم التبادل التجاري مع إيران الملتزمة بتعهداتها النووية.

ومن جانبها، فقد أعلنت الصين فورا أنها لن تنفذ قرار الحصار الأمريكي الذين يتضمن قطع استيراد النفط من إيران، بل إنها أكدت انها ستواصل شراء النفط الإيراني. كما أصدرت الخارجية الروسية بيانات أدانت فيه القرار الأمريكي بفرض عقوبات على إيران، مشيرة إلى أن موسكو تشعر بـ"خيبة أمل عميقة" لإلغاء الاتفاق وإعادة فرض تلك العقوبات. نفهم من ذلك أن روسيا كذلك لن تخضع للقرار الأمريكي، ولهذا يمكننا القول إن أحدا لن يخضع لهذه العقوبات التي ستظل مهجورة.

ومن الواضح أيضا أن الدول التي ستضطر للخضوع لهذا القرار لخوفها من واشنطن ستفعل هذا وهي كارهة. فالولايات المتحدة تحاول فرض ديكتاتورية دولية عن طريق إجبار العالم على قبول قرارات أحادية الجانب. فهذا الأسلوب الأمريكي البعيد كل البعد عن الديمقراطية في إدارة واشنطن للعالم، وهي تمدح بتلك الديمقراطية على أراضيها، قد تسبب في حدوث كل ما حصل بسبب القرارات أحادية الجانب ورياح الخوف والتهديد التي أطلقتها الولايات المتحدة، وهو ما يعتبر أمرا يلغي بالكامل حق أمريكا في الحديث مع سائر الدول عن الديمقراطية.

وإذا ما أضفنا إلى قرار العقوبات ضد إيران هذا كذلك الحروب التجارية التي أعلنتها واشنطن في وقت سابق على الصين والاتحاد الأوروبي، فسنرى، كما أوردنا سلفا، أن الولايات المتحدة تحاصر – في الواقع – نفسها بهذه الطريقة.

لا يستطيع أحد أن يزعم بأن ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي اليوم أمام الليرة التركية أو أي عملة أخرى يصب في مصلحة الاقتصاد الأمريكي. ذلك أن ارتفاع قيمة الدولار يضر كثيرا بالصادرات الأمريكية، وهو ما يحول الاقتصاد الأمريكي بالكامل إلى الاستهلاك المحلي فقط، هذا في حين أن حجم الإنتاج الأمريكي لن يستطيع تحمل الاستهلاك المحلي لفترة طويلة.

وبينما أعطت الولايات المتحدة إشارة الانغلاق على نفسها بالحروب التجارية التي أعلنتها، فإنها تطلق تيارا جديدا يسير في عكس اتجاه تيار العولمة في جميع أنحاء العالم بسبب القيود التي تفرضها على حركة البضائع ورؤوس الأموال. وفي الواقع فإن هذا التيار لا يحمل خيرا لأحد، لكن إذا نظرنا إلى أكثر الأطراف المتضررة بسببه فلن نرى أحدا سوى الولايات المتحدة نفسها. ذلك أنها هي أكثر الدولة استفادة من العولمة، وأي وضعية مغايرة لهذا الوضع سيضر بها أكثر من غيرها.

نتابع اليوم ونحن نعتبر حصار الإدارة الأمريكية لنفسها سياسيا واقتصاديا بمرور الوقت بعدما حصرت نفسها داخل حدود السياسات التبشيرية. فهل يمكن أن نشاهد ما ستسفر عنه هذه الأوضاع لأمريكا نفسها والعالم بأسره دون أن يسيطر علينا القلق؟

#أمريكا
6 yıl önce
مرحلة حصار أمريكا بنفسها
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة
الصراع ليس بين إسرائيل وإيران بل في غزة حيث تحدث إبادة جماعية
التحرر من عبودية الأدوات والسعي لنيل رضا الله
هجوم أصفهان