|
هواء السيسي بالمجان لكن الماء غاليًا

لقد رأينا خليفة حفتر الأسبوع الماضي بعد أن هرب من مطاردة قوات حكومة الوفاق الوطني في ليبيا وهو يلتقط أنفاسه إلى جانب كل من رئيس مجلس النواب في طبرق عقيلة صالح، وعبد الفتاح السيسي، حيث تحدثوا للمرة الأولى عن إعلان لوقف إطلاق النار الذي لم يكونوا مقتنعين به أبدًا رغم كل المحاولات المصرّة لإقناعهم به وكذلك تحدثوا عن حل سياسي يمكن تنفيذه بالتعاون مع جميع الأطراف في ليبيا. لكن للأسف فإنهم قد تأخروا كثيرًا في الحديث عن هذا الحل الذي تذكروه للمرة الأولى.

لا ريب في أنّ الحل السياسي هو الذي سيكون له الكلمة الأولى في ليبيا في نهاية المطاف ليقرر الشعب الليبي مصيره بنفسه، إلا أنه لن يكون هناك أي مكان في هذا الحل لحفتر أو عقيلة أو السيسي الذي قدم لهما كل أنواع الدعم وجعلهما يحاربان الشعب الليبي.

وفي الواقع فإنّ حفتر سيعامل معاملة المتهم الذي من المفترض أن يحاسب على الجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية وليس كطرف من أطراف الحل السياسي في ليبيا. كما أننا وصلنا إلى مرحلة ينبغي فيها لأولئك الذين دعموه في ارتكاب هذه الجرائم أن يدافعوا عن أنفسهم إزاء ما فعلوه.

لقد تم العثور مؤخرًا على 8 مقابر جماعية على الأقل في مدينة ترهونة التي حررت من قوات حفتر، وكان معظم من دفنوا بهذه المقابر هم من النساء والأطفال، بل إن هناك أدلة تشير إلى دفنهم أحياء. فلماذا يكون هناك مكان على أي طاولة يتحدث الملتفون حولها بشأن مستقبل الشعب الليبي لمجرم لا يعرف قلبه الرحمة حتى عند تعامله مع المدنيين من أبناء شعبه؟

لا تزال قوات حكومة الوفاق الوطني تطهر ليبيا من قوات حفتر، وحاليًّا محاولاتها مستمرة على مشارف سرت. وأما السيسي فيصرّ، والهلع يسيطر عليه، على التوقف عند هذه النقطة. وقد أجرى زيارة قبل يومين لوحدات القوات الجوية خرج خلالها بتصريح مثير للدهشة قال فيه إن "الجيش المصري يمكن أن ينفذ عملية عسكرية خارج حدود مصر عند الحاجة"، ثم أضاف "سرت والجفرة خط أحمر، ولن يدافع عن ليبيا أحد سوى أبنائها. إننا مستعدون لتقديم الدعم والمساعدات. لقد أصبح هناك شرعية لتتدخل مصر في ليبيا".

إن هذه العبارات في حقيقة الأمر تعترف، من ناحية، بأن ما تفعله مصر في ليبيا لم يكن يتمتع بأي شرعية حتى هذه اللحظة. ومن ناحية أخرى تعبر للمرة الأولى بهذا القدر من الصراحة عن الموقف إزاء الوجود التركي في ليبيا.

فماذا يمكن أن تكون الشرعية التي يتحدث عنها السيسي لوجوده في ليبيا؟ إنه يتحدث عن حدود مصر مع ليبيا والوضعية التي أفضى إلى ظهورها حالة انعدام الاستقرار في ليبيا. بيد أن حدود مصر المشتركة مع ليبيا لا تشكل خطرًا أمنيًّا إلزاميًّا على القاهرة. بل إنّ مصر هي التي تشكل تهديدًا على أمن ليبيا وليس العكس. ففي الوقت الراهن لم يسجل أي تهديد أو هجوم أو تسلسل لعناصر إرهابية من ليبيا إلى مصر. بل على العكس تمامًا؛ إذ إنّ السيسي هو الذي يدعم الجنرال المتقاعد حفتر الذي لم يعد له أدنى علاقة بليبيا ويقدم له السلاح وعناصر المرتزقة المدربة ليشجعه على مهاجمة الأراضي الليبية بشكل مباشر، لتكون مصر التي يحكمها السيسي منذ عام 2014 هي التي تذيق الشعب الليبي شتى أصناف الآلام والمجازر وانعدام الاستقرار بمواقفها. ولهذا السبب فإنه في الوقت الذي يحق فيه لليبيا التدخل في مصر لأنها تشكل تهديدًا على أمنها، فإنّ مصر لا تتمتع بحق كهذا.

أضف إلى ذلك أنّ هناك الكثير من المشاكل والأعداء الحقيقيين الذين يهددون حدود مصر بشكل حقيقي في الوقت الحالي. فمثلًا تواصل أثيوبيا بناء سد النهضة الذي شيده على نهر النيل الذي يلبي 93% من احتياجات مصر المائية، وذلك والسيسي يقف موقف المتفرج. كما أن مصر عجزت حتى هذه اللحظة في حل المشاكل الأمنية الخطيرة في سيناء التي أصبحت مشكلة مزمنة للقاهرة. ولقد كانت إسرائيل دائمًا هي الطرف الذي يشكل أكبر تهديد على مصر، إلا أنّ النظام المصري لم يتخذ أي إجراء للتعامل مع هذا الأمر، في حين أنه يتخذ مواقف معادية لليبيا وبالتالي تركيا، فما معنى هذه المواقف؟ وإلى أي مدى تتوافق مع الحقائق التي تواجهها مصر؟...

من الواضح أن الذي دفع السيسي لمثل هذه الأمور هي المشاكل العميقة التي يواجهها. فهناك أزمة مستمرة مع أثيوبيا منذ سنوات، وها هي وقد وصلت إلى ذروتها ببدء أثيوبيا ملء السد بماء النيل، وفي المقابل لم يستطع السيسي تقديم أي حل لهذه الأزمة. ولهذا فإن مصر تنتظر أزمة مائية خطيرة كان يمكن لنظامها اتخاذ بعض التدابير المسبقة لمواجهتها، لكنه لم يتخذ شيئًا.

لقد تحولت سيناء حاليًّا بالنسبة للسيسي إلى مستنقع مليء بالمشاكل، وثمة مخطط إسرائيلي صهيوني نهائي ينتظر التطبيق هناك، ويبدو أنّ السيسي إمّا عاجز عن فعل أي شيء حيال الأمر أو على العكس من ذلك لا يقوى على إقناع شعبه بسياسته التي تعمل على تيسير تنفيذ ذلك المخطط الصهيوني. هذا فضلًا عن حالة الانزعاج الشديد التي يعيشها المجتمع المصري إزاء تعامل حكومته مع أزمة فيروس كورونا بما لا يليق بحكومة أيّ دولة. ولا شك أنّ ما يفعله السيسي لن ينجيه أمام كل هذه الإخفاقات، لكنه يبحث لنفسه عما يواسيه من خلال الكلام الذي لا طائل من ورائه.

ولعل ثمة بُعد آخر للمسألة، ألا وهو أنّ أحدًا في سرت والجفرة اللتين أعلنهما السيسي خطا أحمر لا يلقي بالًا لكلامه. ففي الوقت الراهن تعتبر هذه المسألة مسألة تفاوض بين تركيا وروسيا بشكل أكبر.

ليس هناك قوة شرعية يمكنها دعوة السيسي إلى ليبيا. وأما ما قاله إنه سيفعله من خلال العشائر التي يعلق عليها آماله (كالتسليح والتدريب والتحريض على القتال) فإنما سيزيد من حجم ملف جرائمه الدولية. كما أنّ حكومة الوفاق الوطني التي تعترف الأمم المتحدة بشرعيتها تصف أيّ تدخل يقوم به السيسي بمحاولة الاحتلال وترفضه.

وبالمناسبة فإنّ تدخل مصر المباشر في ليبيا سيجعل على القاهرة أن تضع في اعتبارها مواجهة الجزائر، التي تعتبر الأمر تهديدًا لأمنها، وكذلك مواجهة تركيا وبالتالي حلف شمال الأطلسي (ناتو).

إلا أنّ السيسي ليس لديه من القوة والشجاعة ما يمكنه من المجازفة والخوض في هذا الطريق. ولعل الهواء مجاني، لكن الماء باهظ الثمن.

#السيسي
#مصر
#ليبيا
#حفتر
4 yıl önce
هواء السيسي بالمجان لكن الماء غاليًا
الخنازير لا تتغذى على الكتب المقدسة
لا مفر من حرب عالمية
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة
الصراع ليس بين إسرائيل وإيران بل في غزة حيث تحدث إبادة جماعية