|
شكرًا لك ماركار أسايان

إن الموت هو المصير المشترك لجميع الناس. وهو كما يصوّره عصمت أوزال بأسلوبه المؤثّر؛ "لا ينحاز عن وجهته كرصاصة تعرف هدفها"، إنه أكبر قاسم مشترك في هذه الدنيا، حتى بين أولئك الذين لا يرون أي قاسم مشترك بينهم وبين العالم.

إلا أننا نختلف ضمن هذا القاسم المشترك، تبعًا لاختلاف توقيت الموت وسياقه وطريقته. بعض الذين يفارقون هذه الحياة يحظون بما لم يحققوه حتى في حياتهم قبل مماتهم، بشكل أكثر تأثيرًا وقوة، ما كان ليحصل لهم إلا حين موتهم أو بعد موتهم. وبينما يسجل الموت نوعًا من اختلافاته هنا، فإن شخصية الميت وطبيعته وتأثيره؛ تظهر تمامًا تزامنًا مع موته.

على الرغم من أن دفتر أعمال الميت يُغلق بعد موته، ولا يكون له أي تأثير منذ لحظة موته، إلا أن الأمر حينما يتعلق بالتأثير الاجتماعي لهذا الميت، فإن هناك ما لا يُستهان به من الأمثلة التي تشير إلى العكس بشكل تام.

لقد كانت كلمات بطريرك الأرمن في تركيا، إسحق مشعليان، خلال مراسم تأبين جثمان النائب البرلماني ماركار أسايان، التي حضرها الرئيس أردوغان، تشير إلى المعنى ذاته الذي نتحدث عنه، حيث كانت كلماته حول أسايان ذاته بهذا الصدد. على الرغم من حزننا وفاجعتنا بموت أسايان، إلا أن البطريرك كان يلفت الانتباه إلى الخير الذي تسببت به جنازة أسايان.

في ظل الصراع الذي يدور في ناغورني قره باغ بين الأذربيجانيين والأرمنيين، وفي ظل أقوى مشاعر الحماسة التي يمكن أن تحدث بين طرفين ما، نجد أن رئيس الجمهورية في تركيا مع ثلة من كبار مسؤولي الدولة، يجتمعون في كنيسة أرمنية بتركيا من أجل حضور مراسم تأبين جثمان أسايان، الذي قد جسّد بموته هذا المشهد من الالتقاء. ربما يكون هذا النوع من الالتقاء هو الأول من نوعه في تاريخ أرمن تركيا، وبالطبع ليس السبب في ذلك هو استحالة أن يكون هكذا لقاء بين الطرفين، بل لأنه لم تكن الأسباب مهيئة له، وإلا فإنه لا مشكلة مع أرمن تركيا على الإطلاق، لم يكن هناك شيء من ذلك عبر التاريخ، ولن يكون في المستقبل كذلك.

لقد تمكن ماركار من تجسيد هذه الحقيقة للعالم كله، من خلال وفاته التي لم تكن بيده أو بملكه، بل بتقدير مطلق من الله تعالى. وبمعنى آخر لقد مات كما عاش، حيث قُدّر له أن يجسّد النضال الذي خاضه طيلة حياته، أن يجسّده عبر أدق الصور وأكثرها لفتًا للنظر والاهتمام. إن الموت الذي لا يُخطئ هدفه، جعل من موت أسايان واقعة تتناسق مع آثار حياته وما قدّم فيها من نضال وعمل، بأدق صورة وأكثرها تأثيرًا.

كان خطاب البطريرك نابعًا عن الجذور الأكثر أصالة، وعن تاريخ تركيا ومجتمعها الأكثر أصالة كذلك، لقد أعلن بكل بوضوح أنه "برحيل ماركار ولقائنا سوية هنا، تبيّن للعالم كله أن الصراع في قره باغ ليس عبارة عن صراع ديني بين الأرمن والأتراك، بل إنه بعيد كل البعد عن ذلك، كما أنه ليس صراعًا بين الشعبين الأربيجاني والأرمني. بل إنه صراع على الأرض، إنه عقدة خلّفها العقل الإمبريالي ليتناحر الشعوب فيما بينهم إذ يصعب حلّ تلك العقد".

لقد كانت كلمة البطريرك عظيمة حقًّا، وكان كلّ سطر منها يستحق أن يُكتب بماء الذهب، كان خطابه ينبع إخلاصًا وصدقًا في الحديث عن ماركار، كما تشهد على وضع الأتراك والأرمن في تركيا. لقد أطاح بكل محاولات ومساعي أولئك الذين يحاولون ضرب تركيا من خلال مزاعم باطلة تعود لـ105 أعوام نحو الوراء، كانت كلماته تعبيرًا مثاليًّا عن الروابط الحقيقية والعميقة بين المسلمين والمسيحيين فوق هذه الأراضي.

لا شك أن الأرمن في تركيا ضحية النقاشات التي تلازم المرحلة بشكل أو بآخر، إلا أن الحال في تركيا يؤكد على أنه لا يمكن على الإطلاق إلحاق أي أذى كان إزاءهم، لا سيما وأنه ليس من السهل إطلاقًا أن يتحولوا إلى موضوع ضمن تلك النقاشات. ولقد كان ماركار من أبرز وأفضل من شعر بذلك ونقل هذا الشعور لغيره. تمامًا كـ هرانت دينك، إلا أنه على الرغم من إخلاص هرانت ونضاله لم يستطع أن ينجو من أن يكون هدفًا لخطاب عنصري متخلف. لكن كما قال البطريرك مشعليان عن ماركار؛ "حينما وطأ تلك الأحياء الأرمنية التي لا يعرفها إلا القليل في هذا البلد، حدث شيء أشبه بالسحر. انبثق عن ذلك صورة جميلة لطالما رغب فيها الأرمن، من تلك الأحياء التي لم تعرف الإنسان الأرمنيّ جيدًا أو كانت تفهمه بشكل خاطئ، وجدت في ماركار أسايان الإنسان الجميل، الأخ والصديق، الشجاع الشامخ، الذي تبنّى هذا البلد وطنًا أصيلًا له على مر العصور. حتى تحولت معه كلمة "أرمني" إلى معنى سامي يحمل أبعادًا إيجابية".

لقد كان ماركار جسرًا بكل ما للكلمة من معنى، وكم نحن نحتاج اليوم إلى رجال مثل ماركار يكونون جسورًا بين الناس!. إننا نحتاج إلى رجال مخلصين يكونون جسور خير وصداقة بين الأتراك والأرمن، بين الأذربيجانيين والأرمن. بوجودهم كم كارثة يمكن تفاديها، أو كم روحًا يمكن إنقاذها!.

كانت تجمع بينا علاقة صداقة لطالما تطورت منذ وفاة هرانت دينك وبفضل مناسبات مختلفة، لتجمعنا أخيرًا قضية واحدة تحت سقف حزب العدالة والتنمية. بينما كان ماركار رئيس لجنة حقوق الإنسان في حزب العدالة والتنمية، كان مساعدًا لرئيس الحزب أيضًا. كان مخلصًا للغاية لعقيدته وإيمانه وكان متديّنًا، وكنت أحترم فيه ذلك بقدر فائق على الدوام. كان يعي جيدًا ذلك الإيمان، كنت ألحظ ذلك وأحترمه بشدة. وكنت متأكدًا أن مشاعرنا في هذا الصدد كانت متبادلة.

إن مراسم جنازة ماركار والكلمات التي تخللتها، أظهرت بشكل جليّ واضح للعالم كله وفي أدق الطرق وأبرزها، أنه لا يوجد أي عداء عنصري ضد الأرمن في تركيا ولن يكون. وكما قال رئيسنا أردوغان؛ "سنظلّ نقف إلى جانب الجالية الأرمنية التي تمنح لونًا مهمًّا يساهم في ثراء هذا البلد، كما كنّا سابقًا حتى اليوم وسنظل على ذلك في قادم الأيام".

كما كان ماركار شاهدًا علينا بوفاته، فإننا نشهد له أمام الله، شكرًا لك ماركار أسايان. العزاء لتركيا.

#الأرمن
#تركيا
#أردوغان
#ماركار أسايان
٪d سنوات قبل
شكرًا لك ماركار أسايان
إبادة غزة.. المهمة الحضارية الجديدة لبريطانيا والولايات المتحدة
هل رؤية حزب الشعب الجمهوري للجامعات تتفق مع رؤية تانجو أوزجان؟
أولياء بخارى
المجلس السياسي لحزب العدالة والتنمية لربع قرن
دروس وعبر من الانتخابات