|
تمدّن الرغبات المنادية بتأميم الإسلام

منذ تأسيس الجمهورية التركية حتى أيام انقلاب 28 شباط/فبراير (1997) تم التعامل مع "الإسلام التركي" كمشروع سياسي للدولة العلمانية بشكل كامل، وفي المقابل كانت ردة الفعل من قبل المجتمع المسلم تستند إلى نظرية الإسلام الشمولي أو العالمي، كما تستند إلى حساسية عالية وأفق بعيد.

بالنسبة للدولة أو السلطة الحاكمة في ذلك الوقت، كانت رغبتها منعقدة في دين "يتوافق مع مصالحها وسياستها"، بدلًا من دين من المفترض أن يُصغى له وتنفتح عليه كي يغيرها وينظّمها. حتى وصلت مساعي الدولة الحثيثة من أجل "تأميم الدين" إلى منتهاها.

إن مسألة الانسحاب السياسي النسبي للدولة إزاء خطاب "الإسلام التركي" وتسليم ذلك للعناصر المدنية، يعتبر قضية في غاية الأهمية يجدر التوقف عندها. ويمكن القول أن النجاح الذي تحقق على صعيد السياسة، وتحسّن الوضع السياسي والاقتصادي معًا بشكل نسبيّ، كان له تأثير بشكل واضح في هذا الصدد.

لا شك أن وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسلطة عام 2002 كزعيم كاريزماتي لحزب العدالة والتنمية، وترك حقبة 28 شباط في الوراء بل ومحاسبة عرّابيها، إلى جانب النجاح والمكاسب المهمة على صعيد الحرية الدينية وتنمية البلاد؛ يعتبر نعمة بحد ذاته، لكن بدلًا من شكران هذه النعمة، تطورت ردة فعل قوية متعالية عليها.

لا يوجد أدنى شك في أن تركيا حين مقارنتها مع بلدان العالم الإسلامي الأخرى، نجد أنها تحتل المرتبة الأولى من حيث الحريات الإسلامية، وتمثيل الإسلام بشكل أفضل، وحماية أفضل لحقوق الإنسان وكرامته. ولقد باتت تركيا اليوم بفضل ذلك مركزًا للعالم الإسلامي بشكل فعلي.

حين القول بأن تركيا باتت مركز العالم الإسلامي، فهذا لا يعني أن الإدارات الأخرى الحاكمة في العالم الإسلامي ترى الشيء ذاته أو تقبل به حتى. بل إن بعضهم يحمل عداوة لتركيا لأنها تدافع عن قضايا الإسلام فحسب.

لكن هناك فرق شاسع بالطبع بين هذه الحكومات وبين الشعوب التي تحكمها، ويمكن ملاحظة أن الشعوب المسلمة باتت تيمم وجوهها نحو تركيا. وأقرب دليل على ذلك أن ما لا يقل عن 5 ملايين إنسان اضطروا لمغادرة بلدانهم حيث هُجّروا منها، قد اختاروا تركيا ملجأ وملاذًا لهم.

إضافة إلى أنه خلال حقبة الربيع العربي واشتعال الثورات، كان يُنظر إلى سياسة حزب العدالة والتنمية في تركيا بقيادة أردوغان كنموذج يجدر الاحتذاء به. حيث أن الشعوب العربية بعد أن قامت بثوراتها وأطاحت بأنظمتها الديكتاتورية، بدأت تبحث عن نظام جديد يمكن تأسيسه على المدى الطويل، ولقد كان يكثر الحديث عن "النموذج التركي" بشكل كبير. حيث كان هذا النموذج الذي صاغته يد العدالة والتنمية التركي، يعتبرًا انعكاسًا للإسلام السياسي. وبما أن الثورات العربية كانت على قدر كبير من الثراء الفكري لنماذج أفضل أيضًا، فقد اختارت هذا النموذج دون أي تعقيد يُذكر.


لكن في المقابل تسبب النجاح الذي أحرزته سياسة العدالة والتنمية، بنشوء طبقة أخرى غير متزنة بدأت في تعزيز شعور غريب بالتفوق. كانت في وضع شديد الغرابة، حيث أنها تحاول سرقة نجاح ليس لها، وتحاول إسقاطه في أصعب الأمكنة، مع العلم أنها عانت كثيرًا من عدم هضم هذا النجاح.

وسبب قولنا "نجاح ليس لها"، هو أن هذه الطبقة كانت أبعد ما يكون عن السياسة في الظاهر منذ البداية. بينما كانت السلطة في تركيا آنذاك مصممة على تدمير الدين بشكل كامل، كانوا ينظرون إلى السياسة على أنها "شيطان" بشكل مستخف ومستهزئ وغير مكترث لما يجري بحجة أن السياسة شيطان، إلا أنهم أنفسهم لم يتورعوا عن تبني المكاسب التي حققتها السياسة يومًا ما، واعتبروها غنائم خالصة لهم دون أي أحد آخر. وحين النظر إلى سجلهم السياسي وشجرة نسبهم في هذا المجال، مع محاولتهم تمييز أنفسهم عن باقي الأمة من قبيل "حكمة الأناضول" و"التفسير الحنفي الماتوريدي"، ستتضح الصورة بشكل أدق للغاية.

بيد أن المكاسب السياسية التي يعتقد أنها أعطتهم الشجاعة النفسية لجعل أنفسهم متفوقين، كانت مكاسب خاصة بتركيا. وإلا فهل كان هناك وضع ما خلال حقبة 28 شباط أو ما قبلها، تسمح لمن يفكرون باسم الإسلام أن يدّعوا تفوقًا على أي دولة عربية؟ ما هو الفرق الذي كان أصلًا يمكن أن يتيح لـ"الإسلام التركي" أن يدّعي التفوق على دول مثل مصر أو سوريا او المغرب أو الجزائر على سبيل المثال؟

حينما يكون الموضوع مرتبطًا بالنجاح بهذا الشكل، فإن الفشل الضمني للممارسات العملية للإسلام السياسي في الدول الأخرى يبرز أيضًا. ويتساءل في هذا السياق، ما هي الأفكار والمشاعر الإسلامية التي دفعت الشعوب المنتفضة خلال ثورات الربيع العربي؟ ليكون الجواب: بغض النظر عن المشاعر والأفكار، فإن فهمهم للدين خاطئ إذن بما أنهم فشلوا في نهاية المطاف.

بيد أن التسرع في هذا الاستنتاج، يتجاهل بشكل كبير للغاية الظروف السياسية والاجتماعية في تركيا، والظروف السياسية والاجتماعية في العالم العربي. فضلًا عن أنه يتجاهل تضامن الأنظمة الاستبدادية العربية مع الأنظمة العالمية التي تدّعي الديمقراطية، من أجل احتواء الربيع العربي، مما أفرز حالة من الثورة المضادة بأكثر الطرق وحشية وبشكل غير مسبوق، بهدف قمع إرادة الشعوب العربية عبر تحالف تام بين جميع تلك الأنظمة.

إذن، حين النظر إلى المشهد هل يمكن القول بأن رؤية الشعوب العربية وتفسيرها للإسلام يعتبر ضعيفًا أو فاشلًا؟ ألا يحتاج هذا الأمر إلى الوقوف عنده بدقة؟

لا يمكن استنتاج ذلك أو إصدار الأحكام من خلال تعليق ذلك بنجاح نسبي ما أو فشل ظاهري ما نابع عن ظروف شبه قاهرة، وإلا فإن هذه العقلية في النظر للأمور تعتبر عادية للغاية ناهيك عن حالة الكبْر التي تمهد لها.

إن التاريخ مليء بالأمثلة على أناس تعرضوا للاضطهاد وكان عليهم أن يدفعوا ثمن ذلك، من خلال أن يظهروا بصورة الفاشلة، إلا أن الأمر في الواقع ليس مسألة فشل ونجاح، بقدر ما هو مسألة ظروف قاهرة.

لا يمكن تفسير مواجهة أناس ما للاضطهاد والظلم وكفاحهم من أجل تحقيق مثُلهم ومبادئهم في العالم، على أنه هزيمة. بل إن الأمثلة قليلة جدًّا على الأنبياء الذين نجحوا في دعوتهم للناس.

إن الفكر والموقف الإسلامي من هذه القضية، لا يتبنّى أولئك الذين يدينون بدين الراحة والتقاعس، معتمدين على برج عاجي بنَوه بما حققوه من مكاسب دنيوية زائفة وجدوا فيه مدنيّتهم، بل إنه يمثّل أولئك الذين يتحدون طغاتهم حتى وهم ذاهبون نحو الإعدام، يصرخون بوجه طغاتهم دون خوف ووجل: سنعيش أكثر من جلاديكم.


#الدين
#الدولة
#تركيا
#العالم الإسلامي
#ياسين أكتاي
3 yıl önce
تمدّن الرغبات المنادية بتأميم الإسلام
الخنازير لا تتغذى على الكتب المقدسة
لا مفر من حرب عالمية
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة
الصراع ليس بين إسرائيل وإيران بل في غزة حيث تحدث إبادة جماعية