|
الأمر الأسوأ مما قاله رئيس بلدية بولو

من المفترض أن تكون الفضيحة التي وقع فيها رئيس بلدية بولو التركية حول رؤيته العنصرية ضد اللاجئين، والتي ظلت محل نقاش لوقت طويل، قد أظهرت بشكل أو بآخر كيف يمكن لهذه العقلية أن تشكل خطرًا لا حدود له على الإنسانية.

إن أي شخص يتمتع بأقل قدر من الذكاء يمكن أن يفهم ما كانت تقصده تلك المرأة "المحجبة" التي طلبت المساعدة من رئيس بلدية بولو في حل مشكلة عدم الإنجاب التي تعاني منها، وكان من الواضح أنها تقصد مساعدة البلدية لها لإجراء عملية طفل الأنانيب، لا سيما وأنها كانت تطلب ذلك وسط حشد من الناس، فالمعنى مقصود ولا يحتاج توضيحًا، لكن مع ذلك فإن طبيعة اللغة والتعبير تسمح بتحوير المعنى المراد، وهو ما فعله رئيس بلدية بولو دون حياء، على الرغم من أن تحريف المعنى الواضح يحتاج إلى جهد وعقلية منحرفة لإخراجه من سياق ما يقصده المتحدث، وفي الحقيقة يعتبر هذا التشويه اللاأخلاقي للمعنى بمثابة شروع في الاغتصاب وعلى الملأ.

إن قيام مسؤول مضطلع بوظيفة عمومية بتشويه معنى كلام وُجّه إليه بطريقة مخلّة وإيماءات مقززة غير أخلاقية، ومن ثم مشاركة هذا الانحراف المقزز مع الجمهور يعتبر قباحة مفرطة لا يمكن التغاضي عنها بأي حال.

بعبارة أخرى، لو كان الأمر يتوقف عند حدود الانحراف النفسي، فيمكن أن يكون هناك مبرّر ما لذلك، إلا أن موقفه يعتبر انحرافًا من نوع الخيانة والتحرش والإجرام بحق الإنسانية والمرأة، وضد مواطنين أوكلت أمورهم إليه واؤتمن على رعاية مصالحهم.

أما البعد الأخطر في هذه القضية، هو عدم إدراك رئيس بلدية بولو لهذه الانحراف بحد ذاته، لا سيما من خلال الابتسامة التهكمية المتعجرفة، وهي لا شك أنها نابعة من ثقته بأن هناك من سيصفق له ويوافقه على هذا القبح. هذا الجزأ الأكثر خطورة في الواقع، حيث أنه يعتقد ويثق بشدة بوجود زبائن كثر لهذه العقلية داخل المجتمع. وهذا يبدو من خلال ابتسامته الساخرة التي كانت توحي بثقته العمياء بوجود مساحة داخل المجتمع تشاركه هذا التفكير، ولذلك فهو يوجه حديثه لهم في الواقع، لا سيما من خلال تأكيده على كلمة "امرأة محجبة"، دون أن يدرك أنه اغتصب كرامة تلك المرأة من خلال أسلوبه السردي المقزز.

لكن مع شديد الأسف، هناك بالفعل شريحة واسعة في المجتمع تتبنى هذا الانحراف. تمامًا كما رأينا شريحة واسعة صفقت لعنصريته التي تجاوزت الحدود ضد اللاجئين، بشكل لا يقلّ عن انحرافه الأخير ضد المرأة. وفي الحقيقة، إن الأسوأ من سياسات وتصريحات رئيس بلدية بولو، هو وجود كتلة منحرفة تؤيده وتصفق له.

على الرغم من أن أي شخص عاقل يسمع قرار رئيس رئيس بلدية بولو الذي تجاهل الدستور وجميع القيم الإنسانية حول عزمه رفع فاتورة المياه عشرة أضعاف للأجانب، سيستهزأ بالقرار أو يتجاهله كونه غير منطقي وخال من الضمير، إلا أن الواقع يشير إلى وجود شريحة تشارك رئيس بلدية بولو هذا الانحراف.

ألا يعتبر ذلك أخطر ما في الأمر؟ الفاشية تعتبر أمرًا يتطور من الأسفل نحو الأعلى. لا تفرض الدول في الغالب على المجتمع قيمًا أو ممارسات عنصرية تدينها الإنسانية جمعاء، لكن الانحراف العدواني الذي يتنامى مع تلك الممارسات يبرز بصورة أشد عند مشاركته وتعميمه حتى يصل إلى مستوى يفرض فيه نفسه على المجتمع وربما على الدولة أيضًا.

إن جذر العداء ضد اللاجئين نابع من شعور الفوقية والامتيازية واللامسؤولية لدى البعض إزاء من هم أضعف منهم، ويعتبر ذلك المصدر الرئيسي لجميع أنواع العنف في المجتمع. هذه العقلية لا تمتنع عن التعامل بأقسى الطرق مع اللاجئين، لأنها تنظر إليهم على أنهم ضعفاء دون حول وقوة. والأدهى والأمر هو أن صاحب هذه العقلية لا ينظر إلى من هو أضعف منه بعدم مسؤولية فحسب، بل يمنح لنفسه حق الاعتداء عليه.

بعبارة أخرى، إن شعور اللامسؤولية تجاه اللاجئين لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتحول إلى شعور عدواني ومتسلط. وبما أن المرأة أضعف من الرجل فإن كل أنواع العنف ضدها مباح عند هذه العقلية. أما إذا كانت المرأة "محجبة" بنظر تلك العقلية فالطبع ستكون المرأة المنكشفة أقوى في هذه الحالة، وسط تراتب امتيازي قائم على نوع مقزز من العنصرية. ولا شك أن المطلع على التاريخ القريب، سيرى كيف كانت المرأة المحجبة تُسحق في تركيا من قبل أصحاب هذه العقلية، ولذلك فالأحرى أن لا نتعجب من أولئك الذين مارسوا عنفًا من التمييز والإقصاء ضد الحجاب، حينما يكشفون اليوم عن مواقفهم من جديد.

وبناء على ذلك فإن الأمر يخرج من حدود العنف ضد المرأة، بل من الواضح أنه بات قضية مسؤولية أخلاقية يجب أن يتحلى بها القوي تجاه من هو أضعف منه.

على صعيد آخر، نلحظ أن المرأة أيضًا عندما تكون قوية أو تتمتع بسلطة ما، فإنها يمكن أن تمارس عنفًا نسبيًّا ضد من هم أضعف منها. على سبيل المثال، يرى عالم الاجتماع إميل دوركايم النساء اللاتي يجهضن أو اللاتي يستخدمن العنف ضد أطفالهن؛ في هذا السياق من العنف النسبي.

إذن القضية تكمن في مدى الأساس الأخلاقي الذي نمتلكه في تعاملنا مع من هم أضعف منا أو المضطهدين والمحتاجين.

هل لدينا مبادئ أو قيم أو دوافع تحتم علينا تحويل قوتنا لتكون مصدر رحمة وشفقة وعدالة إزاء الضعفاء واللاجئين والنساء والمحجبات وكبار السن والأطفال؟ هل نمتلك هذه المبادئ والقيم أم لا؟ هذا هو بيت القصيد.

وفي العودة إلى رئيس بلدية بولو ذاته، إذا ما أضفنا إلى كل ما سبق تصريحاته المسيئة للمتوفين بسبب فيروس كورونا، سنرى بوضوح الصورة الكاملة للفاشية المختزنة بداخله. كان يتبجح بكل أريحية، يقول: "ليس من الضروري الحزن على الموتى بسبب فيروس كورونا في بولو، فجلهم من كبار السن، وبتعبير آخر قدم في القبر وقدم خارجه"، هذه الكلمات التي كانت صادمة بالنسبة للجميع، ليست في النهاية إلا نتيجة حتمية للعقلية الفاشية التي تمنع صاحبها من أي شعور بالرحمة أو العدالة أو الرأفة.

جميع المواقف التي صدرت عن هذا الشخص تنبع من مصدر واحد، سواء موقفه المتكرر ضد اللاجئين، أو ضد المحجبات، أو ضد كبار السن، وأخيرًا ضد مواطني "بولو" الصامتين. المصدر واحد: اللامسؤولية والقسوة تجاه من هم أضعف منه ومن لا حول لهم ولا قوة.


#رئيس بلدية بولو
#تركيا
#اللاجئين
#المعارضة التركية
3 years ago
الأمر الأسوأ مما قاله رئيس بلدية بولو
المجلس السياسي لحزب العدالة والتنمية لربع قرن
دروس وعبر من الانتخابات
هجمات إسرائيل على عمال الإغاثة في غزة تضع بايدن في اختبار صعب
الجماعات الدينية المحافظة.. من وجَّه غضبها نحو أردوغان؟
ثورة المتقاعدين