|
لكي لا تكون مقيداً ضمن العداء بين الشرق والغرب..

ترك كتاب "الاستشراق" للبروفيسور إدوارد سعيد الذي ألفه عام 1978م، انطباعاً وتأثيرًا هامًا في العالمين الأكاديميين الغربي والشرقي خلال وقت قصير، حيث حدد جميع النقاشات الدائرة حول الاستشراق. وأعطى هذا التأثير دافعًا مهمًا ومنظورًا جديدًا لعمليات البحث الفكرية حول مرحلة ما بعد الاستعمار.

ومنذ تأليف هذا الكتاب، لم تجر دراسات متعلقة بـ"الاستشراق" إلا من خلال اعتماد المخزون المفاهيمي الجديد، والإشكاليات ووجهات النظر التي طرحها الكاتب.

ولو ذكرنا ذلك على عجالة، فقد أحدث كتاب الاستشراق أيضًا تأثيرًا كبيرًا على الدراسات النسوية ودراسات النوع الاجتماعي (الجنسانية).

ومن أهم الإشكاليات التي طرحها كتاب "الاستشراق" هو انفتاحه على المعرفة و الوعي بخصوص ثنائية " ‬الأنا‭ ‬بالآخر"

وتكمن وجهة نظر المجتمع الإسلامي حول هذه المسألة في كيفية رؤية الآخر والتعامل معه، لا في وجوده. ولذلك يجب قبول الآخر كأنه آخر (لديه رأي وفكر خاص به)، وعدم تعريفه ورؤيته وفقًا لأنفسنا، أي تركه كالآخر المطلق، وليس بسط سيطرة خطابية عليه عن طريق تحديده وتعريفه.

ويمكننا القول إن هذا النموذج كان بالفعل الأكثر نجاحًا لجميع الممارسات الحضارية الإسلامية على مر التاريخ.

عندما أعرّف الآخر على أنه نقيض لي أو أضعه ضمن مفاهيمي وتصنيفاتي وتعريفاتي الخاصة، فلن نستطيع أن نسميه "الآخر" وسيصبح جزءًا من أفق هويتي ووجودي.

والأمر الهام هو الأداء المنزه الذي أبدته الحضارة الإسلامية في ترك الآخر كآخر مطلق. لذلك نجد في القرآن الكريم آيات تُصوَّر حدود حياة المسلمين على أنها عالم يضم اليهود والمسيحيين والمجوس والصابئة والأديان الأخرى. وهذه الحدود طُبقت وتطبق في كل زمان. ولم تُبنَ تخيلات المسلمين على التخلص من هذه الاختلافات أو تفاديها. ويجب توخي الحذر والانتباه إلى هذه المسألة، فليس هنالك كتاب دستوري آخر غير القرآن يقر بوجود الآخر بهذه الأريحية.

وهذا ما يجعلنا نرى الاستشراق على أنه مشكلة خلال هذه المرحلة، وذلك لأن الغربيين يقومون بتعريف الشرق ولا يُتركونه كـ "الآخر" المطلق ويقومون بتدمير هذا "الآخر".

ومن وجهة نظر الغربيين فهم يحددون الشرق في خطاباتهم باعتباره نتاجًا للعقل الغربي، وأنه فقد استقلاليته ولا يملك وجود "الآخر". إن التعريفات التي تصف الغرب على أنه يملك المعرفة والسرعة والحيوية والاستكشاف والحماس والنشاط والاجتهاد والانفتاح تكمله الصورة المأخوذة عن الشرق على أنه بطيء وغير نشط وغامض وعاطفي وغير طموح وسلبي وكسول وغير مفيد.

وبما أن الاستشراق قد تعرض للانتقاد بسبب تعامله مع المعرفة كوسيلة للسيطرة، فإن محاكاتها باسم الغرب لا يعني الوقوف ضد تلك السيطرة في جوهرها، بل الميول إلى سيطرة أكبر منها في يوم من الأيام.

بالمقابل، لا يمكن أن يكون البديل عن الاستشراق هو الاستغراب. وفي الحقيقة، كل علاقات القوة تنتج وجهات نظرها المميزة والخاصة.

وخلال الفترات التي كان فيها المسلمون هم الأقوى، اكتشفوا أشياء تستحق المعرفة والتعلم من الجانب الآخر، ولم يترددوا في أخذها وتعلمها، ولم يحاولوا تدميرها أثناء تعريفها، بل قاموا بمراعاة العناصر الأجنبية التي أخذوها شريطة أن تترك كما هي خلال فترة زمنية قصيرة، أي قاموا بمراعاة قانون الآخر المطلق.

وكانت نظرة الغرب للمسلمين تتضمن اختلافات إقليمية و تاريخية. فقد أظهر المسلمون الذين دخلوا أوروبا من الأندلس مثالًا للثقافة والحضارة الرفيعة لمدة 700 عام، من شأنها أن تلهم وتشير إلى عصر النهضة أو الإصلاحات التي حدثت لاحقًا في أوروبا. فالأندلس ليست حضارة تحققت بوجود العالم الإسلامي أو المراجع الأساسية للإسلام فحسب، بل هي حضارة بقيت منفتحة على الثقافات الأجنبية، بدافع وأساس دقيقين وصحيحين لهذه المراجع الأساسية.

في هذا الصدد، يمكننا أيضًا تقييم جميع الحركات الفلسفية التي ظهرت في الأندلس كـ"بيت الحكمة" في إطار التجارب الأولى للغرب.

وفي عالمنا المعاصر يجب علينا كمسلمين قول أشياء جديدة دون التقيد بمحوري الشرق والغرب. ولا يمكننا بدء ذلك دون قبول حقيقة أن العالم الذي نعيش فيه الآن يحمل طابع الحضارة الغربية. ولم يعد هناك أي جدوى من جعل هذه المسألة معقدة.

بطريقة ما، فالصراع يدور داخل العالم الغربي نفسه. ولا يوجد صراع دائر بين الحضارات المختلفة أو بين الشرق والغرب، بل هناك صراع في الجغرافيا العالمية وبكل مكان يشمل مختلف الشرائح الاجتماعية ويجري بين العوام ومضطهديهم في هذا العالم من أجل التحرك نحو حدود أكثر عدلاً وإنسانية.

ومن وجهة نظري، يعد كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" للكاتب الهندي أبو الحسن الندوي أحد أقدم وأعم المقاربات لإدراك العالم الموجه بين الشرق والغرب.

عنوان كتابه هو أكثر من مجرد سؤال عن سبب تخلف المسلمين عن الركب. كما أنه سؤال غير غامض، فتخلف المسلمين حقيقة وأمر لا يمكن إنكاره. كما يمكن أيضًا مناقشة أسباب ذلك.

بالمقابل، يجب أن ننظر إلى ما خسره العالم الحقيقي بسبب انحطاط المسلمين. كما أن نهضة المسلمين وكسبهم القوة ليس ضد بقية العالم كالغرب مثلًا. وبكل تأكيد سيكون ظاهريا ضد المضطهدين من العالم الغربي، ولكن من حيث القيمة المطلقة سيكون لصالح الشعوب الغربية. لأن رسالة الإسلام رسالة هدفها تحقيق السعادة لجميع الناس.

على الرغم من أن النقاشات التي تدور حول الاستشراق قد ارتبطت بظهور الكاتب إدوارد سعيد وتقدمت في الإطار الذي نظمه، إلا أنها لم تقتصر عليه.

فكتاب "ماركس ونهاية الاستشراق" للكاتب بريان تيرنر الذي نشره في نفس العام الذي نشر فيه إدوارد سعيد كتابه الاستشراق، يمتلك حججًا متوازية جدًا مع "سعيد"، لكنه لم يكن شائعا كـ "كتاب الاستشراق" لـ "إدوارد سعيد"، وكان يتضمن نقدًا داخليًا للاستشراق.

وتطرق مقال الكاتب سلمان سيد تحت عنوان ما بعد الاستشراق الذي نُشر في مجلة تزكير التركية إلى هذا الموضوع.

يمكننا القول إن كتاب وائل حلاق الذي جاء تحت عنوان "قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي" يتطرق بعمق أيضًا إلى النقطة التي توقف عندها الكاتب إدوارد سعيد. وقد نُشر هذا الكتاب مؤخرًا وترجم إلى التركية بواسطة أحمد دميرهان.

وبكل تأكيد، عندما يتعلق الأمر بـ "الآخر"، يجدر بنا أن نتذكر أن كتاب إبراهيم قالن "أنا والآخر وما بعده" يعد مقدمة في تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية.


#الشرق
#الغرب
#الاستشراق
#إدوارد سعيد
1 عام قبل
لكي لا تكون مقيداً ضمن العداء بين الشرق والغرب..
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة
الصراع ليس بين إسرائيل وإيران بل في غزة حيث تحدث إبادة جماعية
التحرر من عبودية الأدوات والسعي لنيل رضا الله
هجوم أصفهان