|

ليبيّون "أغنياء فقراء" في آن واحد!

عمد كبار المودعين من رجال الأعمال والمستثمرين، لسحب 30 مليار دينار من المصارف الليبية، وهو ما يتجاوز 70% من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب فقدانهم الثقة في عودة الأمن والاستقرار.

Ersin Çelik و
12:48 - 3/01/2018 Çarşamba
تحديث: 12:52 - 3/01/2018 Çarşamba
أخرى
ليبيّون "أغنياء فقراء" في آن واحد!​
ليبيّون "أغنياء فقراء" في آن واحد!​

"هل تتوقع وصول سيولة اليوم إلى البنك؟"

هزّ إبراهيم خالد كتفيه إلى الأعلى؛ لا يعرف بماذا يجيب تماماً، فسحب نفساً وهو يمطّ طرفي شفتيه إلى الأسفل قليلاً: "هكذا يقولون..!" رمى العبارة فيما كان بصره يجري مسحاً سريعاً للعدد الكبير من الليبيين الذين تجمعوا في وسط مدينة طبرق، شرق ليبيا، قرب ميدان الشهداء، أمام وكالة بنك الأمان الرئيسية في المدينة في الساعات الأولى من هذا الصباح البارد.

قطرات المطر كانت تنزل خفيفة؛ الحشد الواقف آثر أن يتلاصق أكثر، تلمّساً للدفء وتجنباً للبلل، فتشكل طابور طويل يبدأ من أمام البنك وينتهي عند الميدان.. والسعيد منهم من يجد نفسه أمام شبابيك الصرف على واجهة مبنى الوكالة.

أغلب الحاضرين حجزوا أماكنهم منذ منتصف الليل، على أمل الحصول على نصيبهم من السيولة التي أعلنت السلطات المحلية وصولها من البنك المركزي في طرابلس العاصمة إلى المدينة وتوزيعها على فروع البنوك.

إبراهيم لا يأمل بالكثير، فرغم كل هذا العذاب لن يحصل في نهاية الأمر إلا على مبلغ صغير في أحسن الأحوال، هذا إن لم يعد إلى بيته خالي الوفاض. يقول لـ"هاف بوست" إنه لن يحصل "على أكثر من 500 دينار (حوالي 60 دولار).. في كل مرة اضطر خلالها إلى ترك كل أعمالي ومصالحي للوقوف في طابور طويل،" وإذا استمر الأمر بهذا الشكل فلن يحصل على ما في رصيده قبل عشرة سنوات من الوقوف في طوابير على أقل تقدير.

الرصيد متوفر.. والحصول عليه مستحيل

إبراهيم الذي التقيناه الساعة الواحدة ظهرا في مقهى "عنابة" القريب من الوكالة البنكية وكان يقف على بابها، تردد بداية في الحديث معنا لكنه وافق بعد حين.

مع كأس الشاي الذي وضعه النادل على الطاولة، كان إبراهيم قد هدأت مخاوفه من الحديث مع "هاف بوست"، وأوضح إن قوات المشير خليفة حفتر التي تحكم المدينة تحذرهم من التعامل مع وسائل الإعلام غير المحلية، والتحذير يكون أشد عندما يتعلق الأمر بالمسائل الحيوية المتعلقة بالأمن والإرهاب والاقتصاد.

مع رشفات الشاي بدا الموظف في المؤسسة النفطية الرسمية للبلاد، مبتهجاً هذه المرة.. فقد استطاع أن يتحصل على المبلغ المحدد له وهو 500 دينار ليبي ما يعني ضمان مؤونة الأسبوع ودفع الفواتير وبنزين السيارة وبعدها "يفتح الله" على حد تعبيره.

أزمة نقص السيولة بالمصارف الليبية، التي جعلت المواطنين يقضون الساعات في طوابير الانتظار، بدأت قبل عامين تقريباً لأسباب، يرى الخبراء، أن أهمها تذبذب إنتاج النفط ونقص النقد الأجنبي بالمصرف المركزي في بلد يشكل إنتاج الغاز الطبيعي والنفط الخام ومشتقاته قرابة 97% من ناتجه القومي دون إهمال ما تمر به البلاد من انقسامات سياسية وتدهور أمني.

ومع الحديث عن الأزمة، وضع ضيفنا في مقهى عنابة كأس الشاي الفارغة على الطاولة واختفت البهجة من ملامحه وعوضها التجهم. هذه الأزمة جعلت العديد من الليبيين ومن ضمنهم إبراهيم، الميسور مادياً، لا يستطيعون الوصول إلى أموالهم المودعة في البنوك، فهو يطمح منذ سنوات إلى الانتقال رفقة خطيبته إلى شقته التي حالت مشكلة نقص السيولة حتى الآن دون زواجهما وصيانة وتجهيز بيتهما المستقبلي وجلب الأثاث الذي يرغبان به بعد أن أغلقت كثير من المحال بالمدينة أبوابها أو فرغت بشكل شبه كلي من بضائعها بعد توقف الاستيراد بسبب صعوبة الحصول على العملة الصعبة من المصارف.

في ختام حديثنا وشاينا معه، ارتسمت معالم التساؤل والحيرة على ملامح الإطار في القطاع النفطي، فرغم توفره على رصيد ليس بالقليل في حسابه المصرفي إلا أنه لا يستطيع تحقيق شيء من أحلامه "كيف أمتلك مالاً وأعيش فقيراً لا أستطيع حتى ركوب سيارة متوسطة ولا أستطيع تجهيز شقتي والانتقال إليها رفقة زوجتي المستقبلية لأنني وببساطة لن أحصل على أكثر من 500 دينار في كل مرة في أحسن الأحوال؟".

ارتفاع الأسعار وتغول السوق السوداء

حينما ودعنا إبراهيم كانت قطرات المطر قد توقفت، وصفا الجو مع بعض الغيوم المتفرقة، وعلى طول شارع عمر المختار الذي تنتشر على جنباته المحلات التجارية وأصحاب بوتيكات الملابس ومواد التجميل والسوبرماركت كانت حركة البيع والشراء شبه متوقفة.

وعلى عكس وكالات البنوك التي تعرف ازدحاماً بالغاً على أبوابها، فإن المحلات التجارية بدت فارغة في وقت ما بعد العصر حيث كانت تشتد حركة البيع والشراء في هذا الوقت قبل الأزمة.

كنا على موعد في إحدى تلك المحلات مع عماد محمد الموظف الحكومي، كان صحبة صديقه الحاج محمد، صاحب المحل، ولا زبائن رغم توفر السلع وتنوعها.. سألناه عن السبب فرد بسرعة "الأسعار.. يقول الناس إنها ارتفعت ولا تناسبهم".

لا أموال في البنوك فكيف ترتفع الأسعار؟

هذه المرة يتطوع عماد ليجيب عن السؤال، فبعد نقص السيولة النقدية أتاحت كثير من المحال التجارية خدمة البيع بالصكوك كنوع من المساعدة للمواطن كما يدعي التجار، لكن المواطن يشتكي الفارق في الأسعار بين "البيع الكاش" و"البيع بالصكوك" حيث تصل الزيادة إلى أكثر من 35% في أغلب الأحيان "ناهيك أن ارتفاع الأسعار رافقه ثبات في متوسط الدخول الذي لم يتغير منذ عدة سنوات" كما يضيف في حديثه لـ "هاف بوست عربي".

هنا احتدم النقاش بين الحاج محمد وصديقه عماد، التاجر لم يقنعه جواب المستهلك، وألقى باللوم بدوره على تجار الجملة، الذين بدورهم يبررون الأمر في نهاية المطاف بارتفاع سعر صرف العملات الصعبة في السوق السوداء "مجرد فكرة استيراد المواد الغذائية خاصة قصيرة الأجل منها، يعد مجازفة كبرى في ظل تخبط سعر الصرف في السوق والوضع السياسي والأمني غير المستقرين مما يجبرنا على رفع الأسعار بشكل مستمر"، كما يضيف الحاج محمد مصراً على إبراء ذمته وذمة التجار معه.

العودة لنقطة الصفر

تركنا محل الحاج محمد وأكملنا السير في شارع عمر المختار، رمز مقاومة الليبيين للاستعمار الإيطالي، نمشي على جنبات الشارع الذي شهد أمجاد الماضي ويحكي لنا عماد مشاكل الحاضر، فقد أثرت أزمة السيولة والأسعار في حياته، إذ يعتبر نفسه قليل الحظ، زواجه تزامن مع فرض إجراءات تقييد الصرف من أجل الحفاظ على مخزون العملة الصعبة وحصره في مبالغ معينة وفي مواعيد مضبوطة من الشهر يشرف على تحديدها البنك المركزي طرابلس.

عماد كان قد حصل وقتها على وظيفة حكومية بوزارة الداخلية بعد دورة تدريبية استمرت سنة كاملة في معهد ضباط الشرطة بالعاصمة طرابلس بعد حصوله على البكالوريوس، استأجر شقة صغيرة بأحد الأحياء الفرعية بمدينته طبرق طامحاً لحياة جديدة رفقة زوجته الموظفة بإحدى مؤسسات القطاع الخاص، شقة مكونة من غرفتين وصالون صغير بنصف أثاث تقريباً وسط بناية لا تحتوي على مصعد كهربائي ولا حتى موقفاً لسيارته المتواضعة.

يصف عماد تلك الأيام لـ "هاف بوست" قائلاً "كنا نخطط للعمل سوياً بهدف توفير مبلغ يمكننا من تحقيق أكبر أحلامنا "شراء منزلنا الخاص" ولو بعد حين.. كل شيء كان يسير وفق ما خططنا حتى أواخر العام 2014 حين بدأت أزمة نقص السيولة النقدية في المصارف والارتفاع المستمر في الأسعار تأخذ في الاتساع سيما ارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل مهول".

في ذلك الوقت عمد كبار المودعين من رجال الأعمال والمستثمرين، لسحب 30 مليار دينار من المصارف الليبية، وهو ما يتجاوز 70% من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب فقدانهم الثقة في عودة الأمن والاستقرار.

عملية سحب الأموال من المصارف التجارية وعدم إيداعها مرة أخرى، تبعتها موجة ارتفاع حادة في الأسعار غير مسبوقة بعد أن وصل الدينار الليبي إلى أدنى مستوياته مقابل العملات الأجنبية حين اقترب من عتبة 10 دنانير مقابل الدولار الواحد بخلاف السعر الرسمي الذي يحدده البنك المركزي في 1.37 دينار مقابل الدولار بعد تناقص كبير في احتياطي النقد الأجنبي بالمصرف المركزي إثر بيع ما قيمته 25 مليار دولار خلال عامين بحسب غرفة التجارة والصناعة.

كل هذه التفاصيل والأسباب التي سمعها مراراً وتكراراً عماد على شاشات التلفزيون على لسان الصديق الكبير محافظ البنك المركزي الليبي، وحتى الحلول التي اقترحها فايز السراج رئيس حكومة الوفاق في طرابلس لا تعنيه ما دامت لم تحسن وضعه بل زادته سوءاً.

تفاقم الأزمة وطول أمدها أرغمه هو وزوجته على ترك الشقة والرجوع إلى غرفته الصغيرة في بيت العائلة المكتظ بستة من أشقائه زيادة على والده ووالدته.

افترقنا وظل السؤال معلقاً، عماد عاد إلى نقطة البداية لكن هذه المرة برفقته ثلاثة أطفال وزوجة.. متى ستنتهي الأزمة؟ لا أحد يملك الجواب.

#ليبيا
#الاقتصاد الليبي
#البنوك الليبية
6 yıl önce