بكل دهشة واستياء، تحدث الطبيب الفرنسي خالد بن بوطريف، الذي عمل بمستشفيات قطاع غزة نحو 45 يوما، عن دمار هائل بالقطاع الصحي، مؤكدا أنه شاهد إصابات بالرأس برصاص قناصة استهدف أطفالا ونساء وشيوخا مدنيين.
وفي مقابلة خاصة مع الأناضول، تحدث الطبيب الفرنسي عن ظروف العمل الصعبة للعاملين بمجال الرعاية الصحية في غزة الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتأثير الهجمات الإسرائيلية على حياة سكان القطاع.
الطبيب بوطريف ذهب إلى غزة مرتين، أولهما في يناير/ كانون الثاني الماضي حيث عمل في "المستشفى الأوروبي" بمحافظة خان يونس (جنوب) لمدة 15 يوما، ثم عاد إلى القطاع مرة ثانية في يوليو/ تموز الماضي وعمل في مستشفى "كمال عدوان" في بيت لاهيا (شمال) لمدة 30 يوما.
وبدأ الجيش الإسرائيلي في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي قصفا غير مسبوق على مناطق شمال القطاع، قبل أن يجتاحها في اليوم التالي بذريعة "منع حركة حماس من استعادة قوتها"، بينما يقول الفلسطينيون إن إسرائيل ترغب في احتلال المنطقة وتهجيرهم.
وتسبب هذا الهجوم المتزامن مع حصار مشدد في خروج مستشفيات محافظة الشمال عن الخدمة، كذلك أدى إلى توقف خدمات الدفاع المدني ومركبات الإسعاف التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني.
وبدعم أمريكي تشن إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، إبادة جماعية بقطاع غزة خلفت أكثر من 145 ألف قتيل وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
** أوضاع لا تطاق
بوطريف تطرق إلى الوضع العام للقطاع الصحي في غزة، مبينا أن الوضع في جباليا وعموم شمال القطاع "لم يتحسن" منذ أكتوبر 2023، حيث تتعرض المنطقة لحصار وقصف مستمر.
وأضاف: "هناك تفجيرات يومية في تلك المناطق، والصواريخ تمر فوق المستشفيات، والجيش الإسرائيلي يقصف الأهالي في الأحياء ولا يسمح للعاملين الصحيين بالوصول إلى الأماكن المستهدفة".
وأشار إلى أن نظام الرعاية الصحية في غزة "مدمر"، إضافة إلى إخلاء 3 مستشفيات بالقطاع.
وفي 8 أكتوبر الماضي، طالب الجيش الإسرائيلي مستشفيات "كمال عدوان، والإندونيسي، والعودة" التي تعمل بمنطقة شمال قطاع غزة بالإخلاء خلال 24 ساعة، مهددا باستهدافها.
وتابع بوطريف: "حتى لو أعيد فتح المستشفيات فإن أكثر من نصف الموظفين لا يستطيعون العودة إلى عملهم، وهناك صعوبات في المعيشة والسفر، والوضع صعب للغاية ولا يطاق بالنسبة لسكان المنطقة".
وذكر الطبيب الفرنسي أن "كل شيء في غزة مدمر، حيث يتم استهداف المنازل مثلما الثكنات، والطرق حُرثت بدلا من الحقول".
** نقص غذائي
وبخصوص أوضاع أهالي غزة، قال بوطريف إن "معظم الناس في الشمال موجودون بمخيمات اللجوء، ويتوجب عليهم التنقل باستمرار، والباقون يعيشون فوق الأنقاض، ويفتقر جميعهم إلى الماء والغذاء".
وأضاف: "هناك نقص خطير في الغذاء، فمنذ بدء الحرب لا يمكن للسكان الحصول على الأطعمة الطازجة مثل الخضار واللحوم".
وأفاد بأن الأهالي في القطاع اضطروا إلى تناول النباتات والأعلاف الحيوانية بسبب "حصار كامل" على غزة بين شهري مارس/ آذار ومايو/ أيار الماضيين، وتمكنوا من تناول الأرز فقط من المساعدات الإنسانية التي تصل إلى المنطقة.
وشدد بوطريف على أنهم كانوا يأكلون الأرز لمدة شهر في كل وجبة، وتناولوا نفس الطعام لمدة 30 يوما.
** قتل وسجن وتهجير
وتطرق الطبيب الفرنسي إلى "نقص خطير" في المستشفيات والكوادر الصحية، قائلا إن "جميع الأطباء الدائمين والعاملين في مجال الرعاية الصحية تعرضوا إما للقتل أو السجن أو التهجير".
وأشار إلى أن 90 بالمئة من المختصين الصحيين المتبقين في غزة هم من المتطوعين مثل طلاب كلية الطب.
وشدد على أن العاملين الصحيين في غزة يبذلون قصارى جهدهم للقيام بواجباتهم، موضحا أنهم "يعملون بجد ومتعبون للغاية، ففي بعض الأحيان يعملون لمدة 24 ساعة في اليوم".
وأضاف: "يعيش بعض العاملين الصحيين في المستشفيات بعد فقدانهم كل شيء، وخاصة منازلهم وبعض أو كامل أفراد عائلاتهم".
وبشأن نقص المستلزمات الطبية، قال بوطريف إن "الأدوية التي تصل إلى غزة غير كافية، ومواد التضميد والكمادات محدودة أيضا، ولا وجود لمعدات جراحية وخياطة، كما أن المواد اللازمة للتعقيم غير كافية".
وزاد: "استكمال عملنا وعلاج الجروح عند انقطاع الكهرباء كان تحديا كبيرا، وعدم وجود مكيف للهواء يجعل الأمر صعبا للغاية في الصيف حيث تفوق درجة الحرارة 43 درجة مئوية والرطوبة شديدة".
** خراب بكل مكان
وتحدث الطبيب الفرنسي عما شاهده بقطاع غزة، موضحا أن "المستشفيات ليست مناطق آمنة"، وهناك الكثير من الأشخاص يعيشون بمستشفى "كمال عدوان" بعدما أصبحت الأحياء المحيطة به في حالة خراب، حيث دمر الجيش الإسرائيلي كافة المباني المحيطة بالمستشفى.
وتابع: "عندما زرت قسم سوء التغذية بمستشفى كمال عدوان، التقيت بعشرات الأطفال الذين أصبحوا جلدا وعظاما فقط، لم أر شيئا مثل هذا في أي مكان آخر".
وقال أيضا: "هناك قصف يومي حول المستشفى، وفي بعض الأحيان كان قريبا جدا، وكنا نستقبل أعدادا كبيرة من الجرحى والقتلى بعد القصف".
وأردف: "لم نكن نشعر بالأمان عندما يكون هناك انفجارات بالقرب منا أو عندما تصدر القنابل والصواريخ أصواتا بعد انفجارها".
لكن الطبيب الفرنسي أبدى إعجابه بشجاعة أهل غزة وحبهم للحياة، قائلا: "هذا شعب يحب الحياة، ويكافح من أجل العيش، ويعطون دروسا في التضحية والمساعدة المتبادلة".
** استهداف الأطفال والنساء
وقال الطبيب الفرنسي: "زرت مستشفى كمال عدوان والمستشفى الإندونيسي (شمال) ومستشفى شهداء الأقصى (وسط) والمستشفى الأوروبي (جنوب) ولكني عملت في كمال عدوان، وما أدهشني هو عدد الهجمات على الأطفال".
وأضاف: "كان هناك إصابات واضحة بالرأس برصاصة قناصة في يناير/ كانون الثاني وفبراير/شباط الماضيين، استهدفت أطفالا ونساء وشيوخا وبالغين جميعهم من المدنيين".
وأفاد الطبيب أن الأطباء بفرق المساعدات الإنسانية "لم يروا أي أنفاق أو مقاتلين وجميع القتلى كانوا من المدنيين".
وأضاف: "سكان غزة يشعرون بالحزن من ردة فعل المجتمع الدولي على الأوضاع في المنطقة".
** تطهير عرقي
الطبيب الفرنسي قال إنه "لا يمكننا أن نسمي ما يحدث في غزة سوى إبادة جماعية، وأعتقد أن اسم الإبادة الجماعية أقل من الحقيقة، إنهم (الإسرائيليون) يريدون القضاء على السكان".
ووصف بوطريف ما يحدث في غزة بـ "المجزرة"، قائلا إنه يمكن استخدام العديد من الكلمات المشابهة لوصف ما يحدث في المنطقة.
وتابع: "ليس هناك نقص في الأرقام والإحصائيات والشهود، ليس هناك نقص في وصف ما يحدث هناك، هذا ليس احتمال حصول إبادة جماعية، إنه بالتأكيد إبادة جماعية".
وقال إن احصائية القتلى في قطاع غزة تشمل من تم إدخالهم إلى المستشفيات فقط والذين أمكن التعرف على هوياتهم، مشيرا إلى أن عدد الضحايا في المنطقة مرشح للارتفاع.
وتحدث الطبيب الفرنسي عن مشاهد القصف الذي طال مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، حيث أحرق فيها مدنيون، مبينا أن "ما يحدث في غزة ليس حادثة، بل إبادة جماعية مستمرة كل يوم، تتطلب أقصى قدر من الاهتمام".
وذكرت مصادر طبية آنذاك للأناضول أن القصف الإسرائيلي على مستشفى شهداء الأقصى في منتصف أكتوبر 2024، أسفر عن 4 قتلى بينهم امرأة وطفل ونحو 40 مصابا.
وقالت المصادر إن "جثامين الشهداء تفحمت بالكامل"، وأوضحت أن "أغلب الجرحى أصيبوا بحروق من الدرجتين الثانية والثالثة".
وشدد الطبيب الفرنسي على أنه "سواء تحدثت وسائل إعلام بعض البلدان عن تلك الجرائم أم لا، فلدينا الآن فرصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لمشاهدة الصور وتلقي الأخبار ومعرفة تفاصيل ما يحدث هناك بالفعل".
ودعا إلى نشر المعلومات والاهتمام بتوعية الآخرين عما يحدث في غزة، مؤكدا أن هذه الأحداث "لا تؤثر على سكان غزة فحسب، بل على البشرية جمعاء".