السياسة الخارجية الأمريكية في العام الأول من حكم ترامب

10:5326/12/2025, الجمعة
تحديث: 31/12/2025, الأربعاء
قدير أوستون

شهد العام الأول من الولاية الثانية لترامب تغيرات عميقة في السياسة الخارجية الأمريكية. فقد رأينا خلال هذه المرحلة أن الولايات المتحدة لم تعد ترغب في قيادة النظام الليبرالي الدولي الذي أسسته بنفسها وفق الشروط القديمة. وكان لافتًا أن الجدل القديم داخل التحالف الغربي حول “تقاسم الأعباء” تحوّل عمليًا إلى “نقل العبء” إلى الحلفاء التقليديين لأمريكا. ومن خلال إنهاء المساعدات الخارجية وإعادة تعريف دور الولايات المتحدة داخل التحالفات مثل حلف الناتو، اتخذت إدارة ترامب خطوات غير مألوفة عبر مساعي “السلام” في

شهد العام الأول من الولاية الثانية لترامب تغيرات عميقة في السياسة الخارجية الأمريكية. فقد رأينا خلال هذه المرحلة أن الولايات المتحدة لم تعد ترغب في قيادة النظام الليبرالي الدولي الذي أسسته بنفسها وفق الشروط القديمة. وكان لافتًا أن الجدل القديم داخل التحالف الغربي حول “تقاسم الأعباء” تحوّل عمليًا إلى “نقل العبء” إلى الحلفاء التقليديين لأمريكا.

ومن خلال إنهاء المساعدات الخارجية وإعادة تعريف دور الولايات المتحدة داخل التحالفات مثل حلف الناتو، اتخذت إدارة ترامب خطوات غير مألوفة عبر مساعي “السلام” في كلٍّ من غزة وأوكرانيا. كما أعاد ترامب تشكيل نظام التجارة الدولية جذريًا عبر فرض رسوم إضافية على عدد كبير من الدول، وعلى رأسها الصين. وإلى جانب ذلك، أعاد تعريف قواعد استخدام القوة على المستوى الدولي من خلال اللجوء إلى القوة العسكرية ضد إيران وفنزويلا. وقد تزامع ابتعاد أمريكا السريع عن خطاب التفوق الأخلاقي الليبرالي وجهود نشر الديمقراطية مع اتباعها سياسة خارجية أكثر براغماتية قائمة على المصالح الملموسة.


نهاية المساعدات الخارجية وإعادة تعريف التحالفات


كان القرار التنفيذي الذي وقّعه ترامب في يوم توليه المنصب والقاضي بتعليق مساعدات التنمية الخارجية مؤشرًا مبكرًا على التحول الجذري الذي ستشهده السياسة الخارجية الأمريكية. فقد أوقفت إدارة ترامب تمويل العديد من البرامج في أنحاء مختلفة من العالم — من مكافحة الإيدز إلى برامج الشفافية السياسية — معلنة أن الولايات المتحدة لن تتحمل بعد اليوم مسؤولية مشاكل العالم.


وقد أغلق ترامب فعليًا أبواب وكالة المعونة الأميركية ، ولم يقطع المساعدات عن إسرائيل، لكنه لم يتردد أيضًا في طرحها للنقاش. وأكد مسؤولون في إدارة ترامب — وعلى رأسهم وزير الخارجية روبيو — مرارًا أن المساعدة الأمريكية يجب أن تخدم المصالح الأمريكية مباشرة، معلنين عمليًا التخلّي عن أحد أهم أدوات “القوة الناعمة” للولايات المتحدة.


وأظهرت أمريكا في عهد ترامب أنها تعيد التفكير ليس فقط في أدوات القوة الناعمة بل في قوتها الصلبة أيضًا، كما بدا في علاقتها مع الناتو. فبعد أن كان ترامب في ولايته الأولى يضغط على الحلفاء للوصول بسرعة إلى إنفاق 2% من الناتج القومي على الدفاع، رفع هذا الهدف في ولايته الثانية إلى نسبة غير واقعية تقريبًا بلغت 5%. وإلى جانب هذا الهدف الذي اضطر الحلفاء لقبوله في قمة لاهاي في يونيو، واصل ترامب التأكيد على أن أمن أوروبا ينبغي أن يتحمله الأوروبيون أنفسهم. وقد دفعت هذه التطورات الاتحاد الأوروبي إلى تعبئة واسعة في الإنفاق الدفاعي من شأنها أن تؤسس لسياسة خارجية أكثر استقلالًا عن الولايات المتحدة — وهو ما يشير إلى شرخ واضح داخل التحالف عبر الأطلسي.


وفي مسعى لإنهاء الحرب في أوكرانيا، دخل ترامب في مفاوضات مباشرة مع روسيا، والتقى بوتين في ألاسكا بدلاً من عزلِه، متجاهلًا إلى حد كبير أولويات ومخاوف كلٍّ من بروكسل وكييف.


غزة والعلاقات مع تركيا


واصلت سياسات ترامب — من بعض الجوانب — نهج إدارة بايدن، التي كانت تشتكي من إسرائيل لكنها في الوقت نفسه تواصل تقديم الدعم غير المشروط لها. غير أن ترامب عبّر بوضوح عن عدم رضاه إزاء الوضع في غزة وإزاء تجاهل إسرائيل لمساعي وقف إطلاق النار. فقد دفعت ضغوط الدول العربية ورغبته في أن يُعرف باعتباره “القائد الذي جلب السلام إلى الشرق الأوسط” ترامب إلى ممارسة الضغط على نتنياهو.


كما أزعج ترامب أن تُقحم إسرائيل الولايات المتحدة على حافة حرب طويلة مع إيران؛ لذلك ضرب المنشآت النووية الإيرانية لكنه حرص على عدم الانزلاق إلى حرب شاملة. ورأى ترامب أنه من خلال تنفيذ ما تريده إسرائيل ضد إيران، عزّز موقفه في ملف وقف إطلاق النار في غزة، ولم يتردد — بعد الهجوم على قطر — في ممارسة ضغط علني على نتنياهو. ورغم أن وقف إطلاق النار لم يُطبّق كليًا في غزة، فإن مجرد استمراره كان إشارة إلى أن ترامب لن يبقى لا مباليًا بكل ما تفعله إسرائيل.


وأراد ترامب أن يواكب الجهود المكثفة التي بذلتها تركيا ودول الخليج في هذا الملف، فقال لنتنياهو خلال مؤتمره الصحفي الشهير عبارة “كنْ معقولًا”، مشيرًا بذلك إلى أن الدعم الأمريكي لإسرائيل لن يكون غير مشروط.


وفي الوقت نفسه، طرح ترامب رؤية خارجية تشكّك في مبادئ النظام الدولي وتعيد تعريف الدور العالمي لأمريكا، واتخذ تجاه تركيا موقفًا إيجابيًا فتح الباب أمام مرحلة جديدة في العلاقات التركية–الأمريكية. فترامب، الذي تولّى السلطة مباشرة بعد سقوط نظام الأسد، لم يخفِ اعتقاده بأن الفائز في سوريا هو تركيا. بل تبنّى سياسات أنقرة بشأن الحفاظ على وحدة البلاد وإدماج تنظيم “قسد” في النظام السوري، رافضًا نصائح الساعين لإقصاء تركيا عن المشهد.


وقد أبدى ترامب اهتمامًا بوجهات نظر تركيا في قضيتي غزة وسوريا، وأظهر استعدادًا لتجاوز الملفات الشائكة في العلاقات الثنائية — مثل S-400 وبرنامج F-35. كما أنه لم يفتأ يثني على قيادة الرئيس أردوغان، الأمر الذي يعكس حقيقة أن العلاقات الجيدة مع القادة الأقوياء كانت عنصرًا مهمًا في سياسة ترامب الخارجية. ومن الواضح أن دولًا مثل تركيا — التي تمتلك قدرات عالية ولا تخشى المبادرة — تحتل مكانة خاصة في نظر ترامب الراغب في تخفيف أعباء السياسة الخارجية الأمريكية وتحميل جزء منها لفاعلين آخرين.


فرص جديدة مع اهتزاز النظام الدولي


الهزة التي أحدثها ترامب في السياسة العالمية، وإعادة تشكيله التحالفات والنظام الدولي، أوجدت فرصًا جديدة لعدد كبير من الفاعلين الإقليميين. وفي السنوات المقبلة، سيزداد تأثير القوى التي تحسن استثمار هذه الفرص — مثل تركيا — مع “انسحاب” أمريكا تدريجيًا من بعض الأدوار.


غير أن أداء الجمهوريين في انتخابات منتصف المدة عام 2026 سيحدد ما إذا كان ترامب سيمضي العامين الأخيرين من ولايته في وضع “البطة العرجاء” مع تراجع نفوذه. وفي تلك الحالة، قد تصبح المخاطر والمبادرات التي يتخذها في السياسة الخارجية محدودة الإطار. ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن عام 2026 سيكون عامًا حاسمًا بلا مبالغة.


وتشير وثيقة استراتيجية الأمن القومي — التي أعلنت فيها إدارة ترامب تخلي الولايات المتحدة عن رعاية النظام الليبرالي العالمي وتركيزها على نصف الكرة الغربي — إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية تتجه نحو مسار قومي. فترامب، الذي يلعب دورًا نشطًا في ملفات تمس تركيا مثل أوكرانيا وغزة وسوريا، لكنه لا يرغب في تحمل تكاليف كبيرة، سيواصل اتباع سياسة خارجية تفضّل المصالح التجارية من منظور الدولة القومية على قيادة عالمية واسعة.

#ترامب
#السياسة الخارجية الأمريكية
#النظام الدولي
#التحالفات الدولية
#حلف الناتو
#الشرق الأوسط