لقد أدى اعتقال أكرم إمام أوغلو بتهم الفساد إلى توجيه الأنظار نحو المشهد السياسي الداخلي، إلا أن الساحة الدولية تشهد تطورات بالغة الأهمية ذات صلة وثيقة بتركيا. فهناك حراك دبلوماسي مكثف بين أنقرة وواشنطن، بينما تشهد الساحة السورية صراعا خفيا بين إسرائيل وتركيا، حيث تراقب كل منهما الأخرى عن كثب. وملامح التوتر المتوقع في الأيام القادمة، قد بدأت بالظهور.
ومن جهة أخرى، فإن دخول قسد في مفاوضات مع دمشق يُعدّ تطوراً مهماً، إلا أن هذا الاتفاق لا يُلزم أنقرة. وجميع هذه المستجدات مترابطة فيما بينها، وكنت أنوي في هذا المقال تسليط الضوء على الاتفاق بين قسد والنظام السوري، غير أن تطوراً مفاجئاً قادمًا من إسرائيل دفعني إلى تغيير محوري. لذا، من الضروري التركيز الآن على الملف الإسرائيلي، نظراً لكونه أكثر إلحاحاً في السياق الراهن.
كيف ستحدد الولايات المتحدة سياستها تجاه سوريا؟
يتطلب تحقيق تقدم في القضايا الأمنية أن تحسم الولايات المتحدة موقفها بشأن سياستها في سوريا، إذ لا يزال وجودها العسكري هناك، وعلاقتها بالتنظيمات المسلحة، ودعمها لسياسات إسرائيل، عوامل تحول دون التوصل إلى حلول نهائية. فمنذ وصول ترامب إلى السلطة، ركز جهوده بصورة رئيسية على قضايا أوكرانيا وغزة، فضلًا عن إيران، واتضحت سياسته بشأن هذه الملفات.
أما فيما يخص الملف السوري، فقد بقي موقفه غامضاً، حيث أظهرت التحذيرات التي وجهها لإدارة نتنياهو بعد سقوط النظام السوري، والتي دعا فيها إلى الامتناع عن الإدلاء بأي تصريحات ضد دمشق، بادرة على توجه جديد. كما أن دفعه قسد إلى التفاوض مع النظام السوري يوحي بأن واشنطن قد تتبنى نهجاً مغايراً للموقف الإسرائيلي. وقد أكد ترامب رغبته في التعامل مع المسألة السورية بالتنسيق مع أنقرة، وهو ما أعلنه صراحة حين قال: "مفتاح سوريا بيد تركيا"، وهو ما أثار قلق تل أبيب وأطلق صافرات الإنذار لديها.
حان وقت الحوار مع ترامب
تشير التقديرات إلى أن واشنطن قد بدأت هذا الأسبوع في تحديد ملامح سياستها تجاه سوريا، بما في ذلك علاقتها مع تنظيم "بي كي كي" الإرهابي. وفي هذا الإطار، اكتسبت المحادثة الطويلة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أهمية خاصة من حيث التوقيت. وقد جاءت أولى التصريحات الأمريكية بشأن هذه المحادثات على لسان ستيف ويتكوف، المبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط، الذي وصفها بقوله "إن الرئيس دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، أجريا محادثة رائعة" وإن "أشياء إيجابية قادمة".
ونشرت قناة فوكس نيوز خبرا يسلط الضوء على بعض تأثيرات اللقاء في واشنطن. ووفقًا لما ورد في الخبر، يبدو أن "ترامب يفكر في رفع العقوبات المفروضة على تركيا، وإتمام صفقة بيع طائرات F-16، واستئناف ملف طائرات إف-35 من حيث توقف". وقد تم التأكيد في الخبر على ملف أن F-35 سيناقش مجددًا بشرط عدم استخدام صواريخ S-400.
وفي تطور إيجابي عقب المحادثات، مددت واشنطن الإعفاء الذي منحته لتركيا فيما يتعلق بالعقوبات على الغاز الروسي حتى مايو المقبل. وهذا يعد من النتائج الإيجابية للمحادثات. ويبدو أن زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، التي ستبدأ اليوم، قد تم الترتيب لها أثناء هذا الاجتماع. وستكون هذه الزيارة الأولى من نوعها خلال فترة ترامب، وستشهد مناقشة قضايا العلاقات الثنائية، والأوضاع في سوريا والإرهاب، وغزة، وإسرائيل، بالإضافة إلى موضوع العقوبات. وجزء من الزيارة سيتعلق أيضًا بالتحضيرات للقاء المرتقب بين أردوغان وترامب.
ضرورة انسحاب إسرائيل من سوريا
تشهد الساحة السورية صراعاً بين نهجين متعارضين. فمن جهة، تسعى إسرائيل التي تحتل أجزاءً من سوريا تحت ذريعة الحفاظ على أمنها، إلى إدامة حالة الفوضى عبر استمرار سياستها الرامية إلى تقسيم البلاد إلى أربع كانتونات. وقد أشرنا سابقاً إلى ارتباط تل أبيب الوثيق مع الدروز داخل سوريا، فضلاً عن تواصلها مع قسد في الشمال. وفي المقابل، تتبنى تركيا نهجاً مختلفاً، إذ باتت تنظر إلى استقرار سوريا كقضية أمن قومي، آخِذةً بعين الاعتبار ملفات الهجرة والأمن والرفاهية والحفاظ على وحدة الأراضي السورية.
وتدرك أنقرة أن تحقيق الاستقرار في سوريا أمر مستبعد دون خروج إسرائيل منها، أو على الأقل تخلّي تل أبيب عن دورها المزعزع للأوضاع هناك. وعلى الجانب الآخر، ترى إسرائيل أن الوجود السياسي والعسكري التركي المتزايد في المنطقة يشكل أكبر عائق أمام أهدافها التوسعية. وعليه، فإن المواجهة بين هذين التوجهين المتعارضين تبدو حتمية على المدى القريب أو المتوسط.
ولذلك تراقب كل من تركيا وإسرائيل تحركات بعضهما البعض وأنشطتهما العسكرية والسياسية والدبلوماسية في سوريا بكل دقة. وليس من قبيل المصادفة أنه في اليوم الذي زار فيه الرئيس السوري أحمد الشرع أنقرة، نشرت وكالة "رويترز" تقريراً يفيد بأن تركيا تستعد لإنشاء قواعد عسكرية جديدة في سوريا، وتحديداً في "تدمر" وقاعدة "T4"، بناءً على تسريبات من "مصادر استخباراتية إقليمية". وقد أشرنا سابقًا إلى أن مصدر هذه التسريبات هو على الأرجح جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد".
توقيت الأحداث يحمل رسائل تحذيرية
وتبدي حكومة نتنياهو قلقاً متزايداً إزاء مسار الحوار الناشئ بين أنقرة وواشنطن. فقد بذلت جهوداً كبيرة لعرقلة لقاء أردوغان وترامب، لكنها لم تفلح. وبعد الاتصال الذي جرى بين الرئيسين وقعت تطورات لافتة:1) تصعيد النشاط العسكري الإسرائيلي في سوريا. 2) تسريبات في الإعلام الإسرائيلي تفيد بأن نتنياهو يخشى من "ازدياد نفوذ تركيا في سوريا"، وأنه بصدد عقد قمة أمنية مخصصة لمناقشة الدور التركي في المنطقة. كما دُعي الإعلام الإسرائيلي إلى الترويج لكون "الصدام مع تركيا أمر حتمي"، (وهو تطور موازٍ لتقرير لجنة ناجل الذي تم نشره سابقًا).
وتأتي هذه التطورات في وقت بدأت فيه الولايات المتحدة بلورة سياستها تجاه سوريا، كما أنها تفعل ذلك بالتشاور مع أنقرة. ويبدو أن تل أبيب تشعر بأن الأمور بدأت تخرج عن نطاق سيطرتها. لذا قد يُقدِم نتنياهو في هذه الأيام على تصعيد خطير في سوريا بهدف عرقلة التقارب التركي الأمريكي، ودفع إدارة ترامب إلى اتخاذ موقف أكثر تحفظاً تجاه أنقرة. ولذلك من الضروري توخي الحذر والاستعداد لأي استفزاز محتمل.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة