|
ليس المتشدّد.. الإسلام المعتدل هو عدوّهم الحقيقي

كنت أشاهد تلك الأم التركيّة التي جاءت مع ابنتها في زيارة للقدس فقُدّر لها أن تشارك المقدسيّين في دفاعهم عن المسجد الأقصى وأن تُصاب ابنتها على أبوابه، فتجيب من يسألها بأنّها لا تفكر بابنتها الآن بل في وضع الأمّة، وأنّ خوفها على المسجد الأقصى، بينما تذكرت حديثًا جمعني بشهيد من شهداء سوريا الأوائل، وقد نال الشهادة طاهرًا لم يتلوّث بأيديولوجيات، وتكفير، وفرقة، ومكاسب مادية، وكنت أقول له يومها: "تنتهي الحرب و تعود نحو جامعتك مسرعًا"، فابتسم تلك الابتسامة الهادئة، وقال: "بعد سوريا لدينا فلسطين، وبعدها العراق، وأفغانستان، والشيشان، وغيرها كثير"، فغاضبته  ممازحة، لكنّني بكيت فرحًا لأنّي رأيت في كلماته أنّ أمتنا ما تزال حية في قلوب هؤلاء.


من المضحك المبكي أنّه ما زال هناك من يسخر من قولنا إن ما يخطط له ويجري في المنطقة هي حرب صليبية، بالرغم من أن من أطلق المصطلح بداية كان جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وأشار فيه صراحة إلى أن الحرب على الإرهاب ما هي إلا حرب صليبية.


أدرك أصحاب المصالح والمطامع منذ القدم أن الشرائع الصحيحة دعت إلى الحق، والحرية، والعبادة الصحيحة لإله واحد دون خضوع لبشر، وأنها الأشد خطرا على مصالحهم، ولم تتوقف رحى حربهم عليها يوما.


إن استغلال العقائد المزيفة لتحقيق المطامع أسلوب قديم بدأ من العهود الوثنية، ولم يتوقف بالتأكيد إلى أيامنا، وأن العبث في الديانات وتسخيرها لخدمة المستفيدين أمور عاينتها البشرية في الكثير من الشرائع المحرفة، وما قصة تحول شاؤول اليهودي إلى الرسول بولس المسيحي خلال رحلته إلى دمشق، والتي كان يطارد فيها المسيحيين فتحول إلى المسيحية بلقاء مختلق مع الإله، وقدم نفسه كرسول للمسيحيين، بعد أن كان يهوديا ينادي بقتلهم، ليعبث بالنصرانية من داخلها، ثم يصيغ فكر المسيحين برعاية يهودية.


لم تكن تلك الحادثة إلا قصة واحدة من قصص وحكايات مشابهة كثيرة تم الاعتماد عليها لتسهيل قيادة الشعوب، وتسخيرها لخدمة مطامع الحكام، وغيرهم من المستفيدين من رجال الدين، كونها تجعل معتنقها سهل الانقياد، مستعدا حتى للتضحية بروحه دون تفكير، وتجعل تفكيره في الدنيا لا يقترب من المصالح المادية لأولئك، فلا يكاد يفكر في حقوق أو مال مغتصب، أو يميز بين حاله وأحوال مستخدميه، بل يتوجه بكليته وفكره نحو عالم أخر دون أن يزاحمهم على عالمهم ومكتسباتهم، بل تجعله يدفع من رزقه إليهم بروح قانعة ورضا، دون أن يخطر له أن ما تأمر به الشرائع هو دفع المال للفقير، ولحاكم مؤتمن يرفع بها من شأن البلد وحسب، مع محاسبته عليها.


بدأت المخططات منذ القدم لضرب الإسلام والأمة الإسلامية وإضعافها، وفي تشويه صورتها كذلك للسيطرة على مقدراتها، ومنعها من أن تكون حاجزا وسدا منيعا في وجه مطامع المستغلين، واستغلت التشويهات العقائدية لتنفيذ الأجندات والمخططات المعادية ونجحت نجاحا باهرا في ما أنيط بها من أمال ومهام وطموحات، والمتتبع للتاريخ يدرك هذا بوضوح.


وبلغ الأمر أوجه في العقود الأخيرة متمثلا في تغذية ودعم الفكر المتشدد، والتشيع، وغيرها من الفرق والطوائف، بعد أن فشلت المخططات القومية في كبح جماح الشعوب المسلمة، والسيطرة عليها، وتغييبها، وخنق رغبتها وتطلعها من جديد لأمة موحدة.


استغلال التطرف المبني على العقائد المزيفة لم يقتصر على المسلمين بالتأكيد، ولعل خطب جورج بوش الابن الحماسية المحشوة بالتعاليم الدينية التي مهد بها لاحتلال العراق، ومئات المدارس الدينية في إسرائيل التي تصيغ جيلا مؤمنا بالهيكل المزعوم، ومدربا على الكراهية، أمر يثبت أن استغلال الدين يتم من قبل كافة الأطراف ولصالح القوى المستغلة الاستعمارية، وخدمة لمصالحها الاقتصادية أولا والسيادية، لكن بأدوات دينية.


عرفت الولايات المتحدة الأمريكية قوة هذا السلاح في حربها ضد الروس بأفغانستان، فكان معتمدا منذ ذلك الوقت في جميع مخططاتها الهادفة إلى الحفاظ على مكتسباتها من الدول، فجاء خلق "القاعدة" و"داعش" خير معين في تمرير القرارات العسكرية، وبيع الأسلحة لتجاوز الكساد الاقتصادي، وخلق عدو يرهب به العالم، ويسكت الأفواه المعترضة على العبثية، والراغبة في حياة عادلة تحل في العالم أجمع.


يعلم أعداء الشعوب أن التشدد المبني على سهولة تكفير الأخر، والذي يجعل القتل أداه للتقرب إلى الله، هو الأداة الأفضل والأسهل انقيادا لتنفيذ المخططات بأساليب مباشرة وغير مباشرة، فكان الدعم والصمت وكل ما نراه من تسهيلات لانتشاره رغم ما يشاع من محاربته.


تأكدوا أيضا أن الإسلام الوسطي المعتدل الهادف إلى تعزيز الديمقراطية ونشر الرفاه الاقتصادي لشعوبه هو الخطر الأكبر على مصالحهم كونه غير قابل للانقياد لصفاء نبعه العقدي ومرونته، وتعلق فعله بغايات نبيلة أولها رضا الخالق وحده، وتحقيق إرادته في الكون، باتباع نهجه الحق، واستخدام الدعوة بالحال والمقال للانتشار، فكانت الحرب عليه وعلى رموزه ومفكريه بلا هوادة.


إن الإسلام الذي يدعمه حكام الغرب هو ذلك القابع في الفكر المتشدد، والملابس الرثة، والهيئات المخيفة، المتطرف تكفيرا وقتلا، البعيد عن الديمقراطية والحريات، الساعي لفرض الهيمنة، مستغلا أتباعه لتحقيق مصالحه ومصالح أربابه ورعاته في تشويه صورة الإسلام الحقيقي، وسحق أهله وتكفيرهم، وخلق الأجواء والمناخ المناسب للتدخل الأجنبي لفرض السيطرة والحفاظ على المكتسبات الاقتصادية حال تعرضها لخطر الفقد أو العودة لشعوبها الأصيلة.


نعلم جميعا أن إسرائيل تم زرعها لهدف مماثل وهو الإبقاء على حالة التوتر في الشرق الأوسط، وعدم قيام نهضة حقيقية في المكان تمنع مصالح الدول الاستعمارية، وأن الربيع العربي وما أفرزه من حكومات إسلامية بنفس وسطي كان الخطر الأكبر كونها بدأت أول ما بدأت به بالنهضة الاقتصادية في بلادها، و بأزمنة قياسية، مع مراعاة الحريات والديمقراطية، والتوجه نحو الشعوب الأخرى للدعم و أولها القدس وفلسطين فكانت الحرب عليها بلا هوادة.


لقد أدركت الإمبريالية العالمية من خلال الربيع العربي، وخروج الشعب التركي ليلة الانقلاب مكبرين، وتلك المظاهرات التي اشتعل بها العالم نصرة للأقصى، أن كل ما فعلته وقامت به لتغييب الشعوب المسلمة عن قضيتها وأمتها باء بالفشل، وأن توافق حكومة إسلامية وسطية معتدلة مع شعوبها هو الخطر الجلل فكانت المساعي للثورات المضادة والتقسيم ودعم الطائفية وبقايا القوميات هو السبيل وبأيدي أبناء جلدتنا مع الأسف كي لا تقوم هناك تركيا أخرى قوية كتركيا التي تثير مخاوفهم ولا تتوقف المؤامرات ضدها.


الواقع معتم بالفعل ففوضى العراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا ولبنان، وواقع الدول العربية الأخرى المزري يصنع تلك العتمة أمام أعيننا، ويجلوها أمل نراه في تركيا قوية صامدة، وفي معارضة سورية معتدلة، وثوار في اليمن وليبيا صامدون، وفي ما يجري في القدس قد تتوهج منه الدماء من جديد ويكون سببا في نصر ووحدة، فأملنا بالله وبشعوبنا لن ينتهي.


 


  

#الأقصى
#القدس
#العالم الإسلاميّ
#الربيع العربي
#تركيا
7 yıl önce
ليس المتشدّد.. الإسلام المعتدل هو عدوّهم الحقيقي
انهيار مشروع الإرهاب التوسعي
الخنازير لا تتغذى على الكتب المقدسة
لا مفر من حرب عالمية
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة