|
ذلك المنزل في نيقوسيا.. حكاية مؤلمة!

أحرص خلال رحلاتي الخارجية، أن أزور بشكل خاص الأماكن التي شهدت اغتيالات أو صراعات وحروب أو مجازر ومآسي عبر التاريخ. وخلال هذه التجارب التي أحاول تدعيمها بالقراءة، أتيحت لي الفرصة لالتقاط العديد من التفاصيل في مكانها الصحيح.

من بين الأماكن التي وطأتها قدماي من آسيا لإفريقيا، ومن البلقان للشرق الأوسط، كان أكثر مكان أثار إعجابي واهتمامي، هو منزل من طابق واحد في نيقوسيا عاصمة جمهورية شمال قبرص التركية. حيث شهد هذا المنزل في مساء يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 1963، إحدى أبشع المذابح البربرية التي شهدها التاريخ البشري. وفي الذكرى السابعة والخمسين أجد أنه من المهم ذكر تفاصيل هذا الحدث الصغير وتجديد الذاكرة حول تلك الذكريات:

ولد نهاد إلهان عام 1924 في منطقة هاربوت بولاية إيلازيغ التركية، وبدأ العمل كطبيب في أكاديمية "غول هانة" الطبية العسكرية عام 1951، وسرعان ما تمت ترقيته إلى رتبة ملازم في العام التالي. بعد ذلك تزوج من السيدة "ميرفت" (مواليد 1923) التي تعرف عليها خلال خدمته في زونغولداك عام 1956. وفي عام 1957 استقبل مع زوجته أول مولود لهما، إحسان مراد، تلاه نوري قدسي عام 1959، وحاكان عام 1963.

كان نهاد إلهان قد عاد للتو إلى تركيا بعد أن قضى عامين في الولايات المتحدة لدراسة الجراحة العامة والتخصص في جراحة العظام. ليتم إرساله في ربيع عام 1963 إلى قبرص التركية، بصفته رائدًا ورئيسًا لأطباء الفوج.

لم يلبث سوى شهور حتى جلب عائلته إليه، واستأجر منزلًا في شارع "عرفان بيه" بمنطقة "كومسال في نيقوسيا عاصمة قبرص التركية، وكان المنزل الذي يحمل رقم "2" مستقلًّا ومن طابق واحد فقط. كان سر اختيار إلهان لهذا المنزل، هو أنه اعتقد أن المكان سيكون آمنًا لقربه من بعثة للأمم المتحدة، وبالتالي لن يشعر بالقلق على عائلته حينما يكون في الخدمة.

بعد فترة قصيرة من استقرار الرائد نهاد وعائلته في نيقوسيا، كانت منظمة "إيوكا" الإرهابية الرومية قد بدأت ممارساتها في ترويع الأتراك. ولقد أدت الهجمات التي ارتفعت وتيرتها أواخر العام 1963، إلى زيادة عمل الرائد نهاد بشكل مكثف في المستشفى والميدان على حد سواء. ليضطر أخيرًا إلى ترك عائلته في 18 ديسمبر/كانون الأول، بسبب انتقال الفوج الذي كان مسؤولًا فيه، إلى قرية "غونيلي". كان يتنقل لاحقًا باستمرار من قرية لأخرى، لمداواة المرضى والجرحى نتيجة هجمات تلك المنظمة الإرهابية.

في مساء يوم 24 ديسمبر/كانون الأول من عام 1963، وعند الساعة العاشرة مساء بالتحديد، اقتحم مسلحون روم/يونانيون منطقة كومسال، ومن ثمّ شارع عرفان بيه. في تلك الأنثاء كانت السيدة ميرفت تحضّر أطفالها للنوم.

إلى جانب السيدة ميرفت وأطفالها، كان في منزلها صاحب المنزل حسن يوسف غودوم، وزوجته فريدة حسن، وجارتهما السيدة عائشة، جميعهم كانوا في هذا المنزل.

في تلك الأثناء بدأ الروم اليونانيون في دفع الباب الخارجي للمنزل، محاولين خلعه. سرعان ما حاول كل من في المنزل الاختباء في أي زاوية يعثرون عليها من زوايا المنزل. اصطحبت السيدة ميرفت أطفالها الثلاثة وركضت نحو الحمام في حالة من الذعر، وجلست في حوض الاستحمام، وبدأت تنتظر زوال الخطر. كان زوجها السيد نهاد قد أوصاها بالاختباء في الحمام في حالة حدوث خطر ما.

تمكن أخيرًا الروم اليونانيون من خلع الباب بالأسلحة، واقتحموا المنزل وبدؤوا برش الرصاص يمنة ويسرة بشكل عشوائي. أصيب صاحب المنزل يوسف غودوم بجروح خطيرة، كما أصيبت زوجته برأسها، وكذلك جارتهم السيدة عائشة أصيبت على الفور. وعندما وصل المسلحون إلى الحمام، خلعوا بابه بقوة، وبدؤوا برش الرصاص على السيدة ميرفت وأطفالها، وخلال دقائق فقط، تم إطلاق ما مجموعه 33 رصاصة في هذا المنزل، ثماني رصاصات كانت من نصيب السيدة ميرفت وحدها.

بعد يومين من تلك الحادثة المؤلمة، وعقب انتهاء الاشتباكات وصل الجنود الأتراك إلى منطقة كومسال، كانت أضواء المنزل رقم 2 في شارع عرفان بك، لا تزال مشتعلة. لكن حينما دخل الجنود ذلك المنزل سرعان ما شعروا بالصدمة والرعب من قساوة المشهد، كان مشهدًا مؤلمًا بجميع تفاصيله، الدماء تملأ الجدران، والجثث التي قد تجمدت تمامًا من البرد. أما السيد نهاد فلم يتمكن من الوصول إلى عائلته إلا بعد أربعة أيام من تلك الحادثة، حيث كان منشغلًا ليل نهار في العمل والخدمة.

قرر السيد نهاد نقل جثث عائلته إلى مسقط رأسه في إيلازيغ التركية، كما قام بغسل جثث أطفاله بنفسه. وبينما كان يغسل جثث صغاره كان يتحسس أجسادهم للنظر في الأماكن التي أصيبوا بها بالرصاص. كان قد تلقى إحسان مراد البالغة من عمره ستة أعوام، ثلاثة رصاصات، وكذلك نوري قدسي ذو الأربعة أعوام فقد تلقى ثلاثة رصاصات أيضًا، أما الرضيع ذو السبعة أشهر فقط، حاكان، فلم تخترق جسدَه الصغير أيُّ رصاصة، بل مات خنقًا حيث كانت أمه تحتضنه بقوة تحميه داخل حوض الاستحمام الذي كانوا فيه. كانت هذه التفاصيل حقيقة مؤلمة للغاية بالنسبة للسيد نهاد.

منذ ذلك الحين حتى وفاته في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، كان الرائد نهاد يحاول تحمّل آلامه في قلبه بثقة وتوكل كبيرين. إلا أنه لم يملك القوة للعودة إلى ذلك المنزل، إلا في العام 2007، حينما تم افتتاح المنزل كمتحف تحت اسم "متحف الهمجية"، حيث حضر مراسم افتتاح المنزل بنفسه، وكان حينها كما السابق قويًّا محتسبًا صابرًا. وكان بجانبه في ذلك الوقت ابنه من زواجه الثاني، مصطفى نجمي إلهان.

واليوم ها هو السيد مصطفى نجمي إلهان، عميدًا لكلية الطب في جامعة غازي التركية، وعضوًا في اللجنة العلمية كذلك.

لا شك أنّ قصة نهاد إلهان، المنسوجة بحزن لكنها مشبعة بالكرامة، ستستمر في تقديم الدروس لما حتى يوم القيامة.

#قبرص التركية
#نيقوسيا
#متحف الهمجية
#نهاد إلهان
3 yıl önce
ذلك المنزل في نيقوسيا.. حكاية مؤلمة!
انهيار متسارع للعملات الأجنبية.. 15 مليار دولار في أسبوع واحد
الرأسمالية تبنى على العقل لكنها تقوم على الإدراك
لم تعد أوروبا مصدر الأفكار الثورية التي تؤثر على العالم اليوم
عصام العطار
إسرائيل.. تنظيم إرهابيّ يهدد أمن المنطقة