|
طفلان كفاية!

دارت خطبة أمس الجمعة (19 فبراير/شباط 2021) في مصر، حول أهمية تنظيم الأسرة، وضرورة تحديد النسل وإنجاب عدد قليل من الأطفال. أستطيع أن أرى علامات الغرابة والتعجب في وجه كل من يقرأ هذه الكلمات، إلا أن الخطبة فعلًا دارت حول هذا الموضوع، ولا شك أنه شيء مثير للتعجب.

لا شك أن تناول منابر الجمعة في مصر لمواضيع وقضايا تُعتبر في العادة علامة من علامات التغريب في العالم الإسلامي، فضلًا عن أنها قضية ممولة من أوروبا؛ هو مؤشر لا ينفصل عن الخطوات السياسية التي اتخذتها الحكومة المصرية في الآونة الأخيرة.

من الواضح أن الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري يوم 3 يوليو/تموز 2013، يركز بشكل كبير في السنوات الأخيرة على قضية تحديد النسل، ولا يترك محفلًا أو فرصة إلا ويتعرض لهذه القضية.

على سبيل المثال، يؤكد السيسي على أن النمو السكاني يتسبب بعبء ثقيل على كاهل ميزانية الدولة، بل إنه تحول إلى "أزمة وطنية"؛ حسب تعبيره، ولم يغفل أيضًا عن نصيحة كل امرأة مصرية أن لا تنجب فوق طفلين كحد أقصى.

بل إنّ السيسي عام 2018 حوّل هذه القضية إلى حملة شعبية تحت عنوان "اثنين كفاية"، ووجه كل الأذرعة التابعة له للترويج لهذه الحملة والتفاعل معها، كما كلف وزارة الصحة المصرية بتولي هذه الحملة. وبينما يقوم الاتحاد الأوروبي بتمويل وسائل تحديد النسل، يواصل عشرات الآلاف من الشباب في مصر عملية "زيادة توعية" المواطنين في عموم مصر.

إلى جانب ذلك، يزعم السيسي أنّ الزيادة السكانية هي إحدى الأزمتين اللتين تواجههما مصر، أما الأزمة الأخرى فيه الإرهاب، حسب زعمه. ما يعني بعبارة أخرى، أن إنجاب عدد كبير من الأطفال أو تكوين أسرة كبيرة؛ أمر يصل إلى مستوى جريمة موازية للإرهاب.

يتجاوز عدد السكان في مصر حاليًّا أكثر من 100 مليون نسمة، لتكون بذلك أول دولة عربية من حيث عدد السكان. وما لا يقل عن 20% تقريبًا من إجمالي عدد هؤلاء السكان يعيشون في القاهرة وما حولها. ومن بين هذه الـ20% هناك أكثر من 500 ألف نسمة يعيشون في المقابر بين القبور، أي بلا بيوت نظامية. نعم في المقابر، تمامًا كما قرأتم. حيث تحولت المقابر التاريخية في القاهرة إلى أحياء مزدحمة تعج بالسكان.

على سبيل المثال، على حافة ضريح إحدى المماليك ترى عوائل جالسة تطبخ طعامها، أو ربما تصادف ضريحة إحدى الأميرات قد توسطت غرفة جلوس عشوائية، أو ربما تلاحظ ملابس مغسولة منشورة على شواهد قبر باشا عثماني، أو ربما ترى التلفاز مفتوحًا ليل نهار بجانب رأس أحد الزعماء الوطنيين المصريين حالفه الحظ ليرقد ويُدفن هناك.

جميع هذه الأمثلة حقيقة لا خيال، حينما شاهدت هذه الصور للمرة الأولى شعرت بدهشة كبيرة، زادت حينما تأملت أنها في القاهرة. بل الأغرب من ذلك أن بعض العوائل الثرية في مصر تتعمد دفن من قضى من أفرادها في تلك المناطق، من أجل أن يرعى هؤلاء الفقراء تلك قبور أفراد تلك العوائل.

جميع هذه الصور المأساوية يرجع في النهاية إلى سبب معروف وواضح، ألا وهو الفقر الذي يدفع بالإنسان إلى هذا المستوى من البؤس. لا سيما وأنه لا يوجد أي تكلفة للعيش في المقابر سواء في الصيف أو الشتاء.

لا شك أن الحكومة المصرية التي تقبع تحت سيطرة العسكر بشكل كامل، هي المسؤولة عن الحالة السيئة التي وصلت لها البلاد، وبدل من أن تتحمل مسؤولية ذلك وتعالج هذه الأزمة، فإنها تلقي باللوم على الناس البسطاء الفقيرين وتحثهم على عدم إنجاب مزيد من الأطفال.

لا شك أن التركيز على قضية تحديد النسل، يغيّب الصورة الكاملة للحقيقة ويختزلها في شيء واحد، حيث يتغافل عن النقطة الأهم ألا وهي أن المؤسسة العسكرية في مصر هي المسيطر المطلق على الكثير من القطاعات الكبرى في مصر.

الكلمة الأولى والأخيرة هي للعسكر سواء في مجالات التصدير أو الاستيراد أو النقل أو توريد المواد الخام وغير ذلك، وسواء في مجالات وسائل الإعلام، أو المؤسسات الدينية، وحتى المجلات.

حتى الأزهر الذي حاول حماية استقلاليته من وقت لآخر، لا يملك في نهاية الأمر حق التصرف أبدًا سواء في الاقتصاد أو المجالات الأخرى التي تؤثر في مصير البلد ومساره.

الطريق الذي يؤدي إلى بطن الشعب يمر من بين أفواه الجنرالات في مصر، وبالطبع لا يمكن مناقشة أو مجرد طرح هذه القضايا من جميع جوانبها في مصر بسبب المناخ السياسي العام في البلاد، لكن الجميع يعلم أن جوهر المشكلة وأصلها هو: سوء الإدارة.

وعلى الرغم من بؤس الشعب وفقره المدقع، تستمر الحكومة المصرية في إغداق الأموال الطائلة لإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة وقاهرة جديدة خارج المدينة، ولا تزال تكاليف هذا المشروع تزداد يومًا بعد يوم.

لكن ومع كل ما سبق، ليس من الصائب أن يقلل أي أحد من أهيمة مصر، من خلال النظر لهذه الصور السلبية. لا تزال مصر هي الرائد في العالم العربي، ولا تزال القاهرة في مستوى المنافسة مع إسطنبول كما كانت على مر التاريخ. ولا تزال مصر دولة قوية مؤثرة للغاية، على الرغم من الأزمات التي تعاني منها وسوء الإدارة والمشهد الفوضوي الذي تبدو فيه.

من الممكن إدراك قوة مصر من خلال موقعها الجيوسياسي، أو الحركات السياسة التي كانت مهدًا لها، وتأثير هذه الحركات في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكذلك من حالة "الشتات" المصرية في عموم العالم العربي، والتي أفرزتها القوة السكانية الهائلة.

حتى ولو كانت الحكومة المصرية سببًا في جعل مصر تحني ظهرها أمام الآخر، لا سيما السعودية، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر، فمع ذلك تبقى مصر مصرًا!.

إن النظر إلى مصر على أنها الرائد، خلال محاولة أي دولة ما تطوير سياساتها على المدى القريب أو البعيد، وإنشاء منظور عام لقراءة المنطقة؛ يعتبر من أهم القرارات الدقيقة والهامة. لا سيما وأن ذلك يعني أن أحد أهم عناصر التوازنات الداخلية للشرق الأوسط تتم قراءته بشكل صحيح.

#مصر
#العالم الإسلامي
#العالم العربي
#السيسي
3 лет назад
طفلان كفاية!
انهيار مشروع الإرهاب التوسعي
الخنازير لا تتغذى على الكتب المقدسة
لا مفر من حرب عالمية
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة