|
لا بدّ من الذّكرى: الأسماء والواقع

إن التسمية ليست مجرد منح بعض الأدوات إشارات محايدة أو رموز، بل إنها بداية إنشاء عالم جديد. وبهذا المعنى فإن التسميات بحد ذاتها لم تكن محايدة يومًا ما، ولا يمكن لها ذلك. بل اللغة بحد ذاتها لا تبدو محايدة حتى بأبسط صورها. على الرغم من أن المفاهيم الزوجية القائمة على المستوى الأساسي للغة تخضع لتسلسل هرمي، فإنها تؤسس ما يقابلها؛ في عالم الواقع. ولذلك فإن تصور العالم والواقع يختلف بين الذين يتحدثون الألمانية والإنجليزية والفرنسية والعربية والكردية مثلًا، وبين الذين يتحدثون التركية. وبالطبع لا يمكن تصنيف هذا الفرق على أنه نوع من الاختلافات الثقافية. وعلى الرغم من أن اللغة تعتبر عنصرًا أساسيًّا من مكونات الثقافة، إلا أنها لا تمنح أفرادها المتنوعين الرفاهية نفسها في كل موضوع.

انطلاقًا من هذه الحقائق التي يذكرنا بها سلمان سيد في كتابه "استعادة الخلافة"، فإن تغريب أو عزل المسلمين عن لغاتهم يعتبر جزءًا مهمًا من عملية محو الأسلمة التي بدأت ما بعد الخلافة. لدرجة أن المسلمين لم يتمكنوا من التأريخ لهزيمتهم أو تسميتها بأنفسهم.

إن المسلمين الذين اغتيل جسدهم السياسي وتمت محاولة دفنه في التاريخ، لم يتمكنوا حتى من قراءة الفاتحة على روح ذلك الجسد، والسبب هو أن المنتصرين في تلك المرحلة الزمنية أردوا للمسلمين قراءة تلك الحقبة كما رسموها وأرادوها لهم لا كما يريد المسلمون. بعد أن وضعوا المسميات حسب مزاجهم، فجعلوا الأتراك يقرؤون التاريخ على أن العرب خونة، والعرب يقرؤونه على أن الأتراك محتلين.

إن التاريخ ليس بهذا الشكل طبعًا. إلا أن المركزية الغربية من حيث نظرتها للتاريخ، كانت مجمعة على ان يكون المسلمون على اختلاف أعراقهم وألوانهم، بدون تاريخ.

في هذا السياق يقول سلمان سيد؛ "إن الناس لا يصبحون عديمي تاريخ بسبب أنهم لا يملكون ماضيًا، بل لأنهم يعجزون عن إخبار أنفسهم بالمستقبل". لكن من يستطيع أخذهم نحو المستقبل؟ لا بد إذن من جسد سياسي عبقري. وإن هذا الجسد الذي حاول سلمان سيد تسميته وإنشاء نظريته؛ هو: المسلم.

إن منح الغرب كلمة "تاريخ" لما عاشه هو فقط من أحداث ماضية، وعدم اكتراثه بما عاشه الآخرون في الماضي واعتباره وقائع مكررة لا قيمة لها؛ لا ينبع من رغبة الغرب بتجاهل الأجساد السياسية الأخرى، بل من رغبته في القضاء عليها تمامًا. إن الشعوب التي بدون تاريخ، إما أنها لا تحمل أسماء وبالتالي هي ليست حقيقية، أو تمت تسميتها من قبل الآخرين. وإن الهزائم الكبرى لا شك أن بإمكانها محو اسم حتى ولو كان قويًّا عميقًا. ها هم الآشوريون سرعان ما بدؤوا يختفون من الذاكرة عقب الهزيمة الكبرى التي تلقوها إثر سقوط نينوى عام ٦١٤ قبل الميلاد. حتى ولو بقي الآشوريون بيولوجيّا فإن أسماءهم بمجرد اختفائها باتوا بحكم العدم.

إن ما حدث عام ١٩١٨ كان هدفه النهائي هو محو اسم الإسلام. لقد انطلقت واستمرت الحروب الصليبية ضد الإسلام على مر التاريخ من أجل الوصول لهذا الهدف النهائي، ولم تنته إلا حينما شعر أصحابها بلذة النصر المطلق، حسب وصفهم. كان الهدف الرئيسي هو القضاء على الإسلام باسمه وتسميته معًا. وبعد وضع الحرب أوزارها باتت هذه مهمة جميع السياسات التي تسلمت زمام الأمور في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وبذلك تم التخلص من مشكلة الإسلام إلى حد كبير، بالنسبة للهيمنة الغربية التي كانت متمثلة بالتنوير المزعوم.

ومن هذا المنطلق يعتبر الآن تداول كلمة "الإسلام" ووجود المسلمين على أجندة العالم بطريقة او بأخرى؛ هزيمة فاضحة للهيمنة الغربية التي كانت تعتبر قبل قرن كامل أنها حققت نصرًا مطلقًا. وإن سلمان سيد يحاول إظهار ماهية هذه الفضيحة من خلال غوصه في أعماق التصور العالمي للمركزية الغربية.

إن الإسلام هو العقدة التي تربط بين العديد من الخيوط التي بدورها تشكل أو تمثل الأمة بكل ثرائها المختلف والمتنوع. لا يتوقف اسم الإسلام على لم شمل المسلمين وتوحيد صفوفهم فحسب، بل إنه إلى جانب ذلك يحدّد من هم المسلمون في الماضي والحاضر، وكيف يجب أن يكون المسلمون.

في السياق ذاته، ليس صحيحًا أن نقول بأن مصلح الإسلاميين أو الإسلامية، الذي يُطلق على المنحى السياسي عامة؛ يمكن أن يكون بديلًا عن كلمة "إسلام" أو "مسلم"، كما أنه ليس من الصحيح كذلك الادعاء بأن ذلك المصطلح يعتبر تشويهًا للإسلام، حيث يبدو محاولة عبثية وغير مجدية لقراءة هذا التاريخ.

إن مصطلح الإسلام الذي يطلق على العمل السياسي، هي في الحقيقة مجموعة من المشاريع السياسية التي تحاول وضع الإسلام في مركز نظام اجتماعي ما. لا سيما وان الإسلام هو الصوت الوحيد واللغة الوحيدة التي بإمكانها الذهاب بمركزية الغرب والوقوف في وجه تسمياته المهيمنة على العالم. إن الإسلاميين قد تمكنوا من الوصول نحو عالم عصري عبر هوية "مسلم" في النهاية. حين النظر من ناحية تقسيم العالم إلى غرب وغير الغرب، فإن إيصال المسلمين اسم الإسلام نحو العالم، يعتبر مهددًا للاستقرار بالنسبة للنظام الاستعماري. وبهذا المعنى يكون الإسلام عبر اسمه وما يتبعه من جميع مواقفه وأحواله؛ على أنه البديل.

إن عنونة سلمان سيد لباب من أبواب كتابه تحت عنوان "الأسماء"، خلال محاولته عن إمكانيات بناء ذات للمسلم، يعتبر أمرًا صائبًا وذا مغذىً كبير. لقد بدأ بالأسماء لأننا في صراع المكان والوطن في هذا العالم. في النهاية كما تقول الآية ٤٠ من سورة يوسف؛ "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان".

بالمناسبة، ألا يوجد من قارن بين مخرجان صراع المسلمين حول المكان والوطن في العالم، وبين المخرجات ذاتها عند الكماليين (أصحاب الفكر الكمالي في تركيا نسبة لمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك)؟ هذا النوع من التفكير في تركيا يعتبر لوحده عقدة أخرى لوحدها ضد مفهوم الإسلامية. وفي هذا الصدد يقول سلمان سيد:

"إن الادعاء بأن الإسلاميين هم أنفسهم الكماليون، فقط لأنهم يستخدمون المفاهيم والمصطلحات نفسها المتعلقة بعمليات المركزية الغربية في العالم الإسلامي؛ ليس مجرد نوع من أنواع المبالغة فحسب، بل هو أزمة تنظير وعدم كفاءة في إنتاج المصطلح".

يرتبط عدم الكفاءة هذا ارتباطًا وثيقًا، بفقدان جوهر الموضوع وعدم فهم أهمية الأسماء. والجواب عن سؤال؛ لماذا وكيف يحدث هذا؛ لا يحتاج إلى تفكير بل إلى مجرد تذكّر فحسب.

#ياسين اكتاي
4 yıl önce
لا بدّ من الذّكرى: الأسماء والواقع
انهيار مشروع الإرهاب التوسعي
الخنازير لا تتغذى على الكتب المقدسة
لا مفر من حرب عالمية
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة