|
الحطام الذي خلّفه أوباما قد خلفه ترامب لبايدن

يُنظر للانتخابات الرئاسية الأمريكية وكأنها انتخابات للعالم بأسره، لكن الجزء المثير للسخرية في الأمر هو أن هذه الانتخابات التي تشغل العالم وتعنيه بطريقة ما، وتلقي بظلال نتائجها عليه، لا يصوت فيها سوى الأمريكيون فحسب في نهاية المطاف.

لقد كان العالم كله على مدار شهور، يراقب عن كثب سير السباق الانتخابي ما بين ترامب وبايدن، وكأنّ هذه الانتخابات تجري في كل بلد من بلاد هذا العالم. الجميع يراقب هذه الانتخابات ويحاول تحديد موقعه من خلال التطلع لنتائجها. سواء الصين أو روسيا أو حتى دول الاتحاد الأوروبي، إلا أنّ الأهم في ذلك هو دول الشرق الأوسط ودول الخليج على وجه الخصوص. لم تمتنع جميع هذه الدول من الانخراط بشكل مباشر في عملية الانتخابات الأمريكية، ولم تتردّد حتى في تمويل الحملات الانتخابية أيضًا من خلال جماعات الضغط لدى بعض الدول في الولايات المتحدة.

يدور الحديث حول أنّ بعض الدول قد ضخت بالفعل أموالًا طائلة لتمويل حملة ترامب الانتخابية، ويمكن قراءة ذلك بسهولة من خلال النظر إلى خيبة الأمل التي تعرضت لها هذه الدول بعد صدور النتائج أي بعد فوز بايدن وهزيمة ترامب.

مهما قلنا أنّ الانتخابات الأمريكية ونتائجها لا تعنينا، إلا أن تغيير تموضع بعض الدول سيؤثر علينا شئنا أم أبينا، بغض النظر عن التأثير سلبًا كان أم إيجابًا، إلا أن ذلك سيؤثر علينا بشكل أو بآخر.

بالنسبة لي، لا أتفق مع الذين يقولون أنّ السياسة الخارجية الأمريكية لا تتغير أبدًا مع تغير الرئيس الأمريكي. لا سيما وأننا مررنا بتجربة خاصة ونادرة من خلال ترامب، أثبتت لنا أنّ شخصية الرئيس الخاصة حينما تلتقي مع سلطاته وصلاحياته يمكن أن يتغير الكثير الكثير. وبالتالي قد رأينا بأعيننا أنّ استمرارية السياسة الأمريكية لا يعني سوى دور يلعبه كل رئيس أمريكي حسب قواعده الخاصة، وأن بإمكان كل رئيس تغيير الكثير حينما يريد، ضمن الدور الذي يلعبه في السياسة الأمريكية.

نعم ربما كان ترامب نموذجًا فريدًا في هذا الخصوص. لم يترك أيّ تقليد من تقاليد السياسة أو المؤسسات الأمريكية المستمرة منذ 250 عامًا إلا وحاول كسره. وكرئيس "مجنون" قد أزعج بلا شك جميع الروتينات سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية التي اعتادت عليها الولايات المتحدة.

بالطبع لا يمكننا القول أنه نجح في كل ما صنعه، حيث أنّ هناك في النهاية بنية عميقة "حكم الأقلية" داخل الولايات المتحدة لا تزال تحافظ على الإحكام بقبضة السياسة والاقتصاد في وقت واحد. وفي الحقيقة نجد أنّ جميع العمليات الديمقراطية التي تجري في الولايات المتحدة من وقت لآخر، ما هي إلا مجرد محاولة لإخفاء القوة العميقة التي تملكها بنية "حكم الأقلية"، التي أطلق عليها عالم الاجتماع الأمريكي الشهير؛ رايت ميلز، مصطلح "النخبة الحاكمة".

وفي الحقيقة لم يكن ترامب سوى فرد من هذه النخبة الحاكمة، وهو يعرف هذه النخبة جيدًا لأنه واحد منها. كان يعرف جميع الآليات والبرتوكولات التي وضعوها للحفاظ على أسس نظام التشارك الخاص بهم، ولقد كان يضغط عليهم من هذه النقطة بالتحديد. ولم يكن ترامب ثوريًّا بما فيه الكفاية حتى يتمكن من خرق هذا النظام لتأسيس نظام جديد، لكنه أشار بوضوح إلى أنّ هذه النخبة أو حكم الأقلية تعيش فيما بينها حالة انقسام واضح.

لقد كانت عملية اختراق العديد من القواعد والأسس للإدارات الديمقراطية الأمريكية المتعاقبة منذ عشرات السنوات، خطوة هامة من حيث أنها أثبتت أنّ الرئيس الأمريكي يمكنه ممارسة السياسة التي يريدها ضمن النظام الأمريكي، وأن المسارات السياسية ليست مسدودة كما كان يُعتقد. لكن في الوقت ذاته هذا يعني أن الخطوات التي اتخذها في إطار كسر القواعد السياسية القديمة الراسخة كانت صائبة. حيث أنه نعم قد نجح في فتح الأوردة السياسية المغلقة في الولايات المتحدة؛ ولكن ليس من خلال قيم أكثر إيجابية، على العكس، قد فعل ذلك عبر خيارات أسوأ بكثير مما كان موجودًا.

مثلًا، نجد أن ترامب من أجل تحقيق تطوّر وتحفيز في الاقتصاد الأمريكي والنفوذ السياسي للولايات المتحدة، راح يعتمد على الخطاب القائم على العنصرية وكراهية الأجانب، مما ساهم في إضفاء المزيد من السوء والظلامية على سجل الولايات المتحدة السيء أصلًا.

لا سيما في الحملات التي اتبعها إزاء الشرق الأوسط، حيث جعل الولايات المتحدة أكثر صهيونية، وأكثر معاداة للإسلام، وتحولت إلى حامية للديكتاتوريات في هذه المنطقة. لم يكترث لانتهاكات حقوق الإنسان التي أصبحت روتينية في دول العالم العربي، بل كان جلّ همّه في تحصيل الأموال التي يكسبها من هناك. واللافت في الأمر أنه لم يتردد أبدًا في التصريح بهذه المصلحة الذاتية أكثر من مرة. وربما هذا الشيء بحد ذاته قد جعله ينال مكانة ما في نظر ناخبيه.

الشيء ذاته ينطبق على تصريحاته التي غازل بها الرئيس الانقلابي في مصر، عبد الفتاح السيسي، حينما وصفه بـ"ديكتاتوري المفضل"، دون أن يفكر بالطبع إلى أين يمكن أن يودي به هذا الغزل الشنيع. كذلك الأمر حينما تعمد إفشاء حواره مع العاهل السعودي أمام حشد من أنصاره، حيث تناول ذلك بلغة غير لائقة ومحترمة.

والآن بعد انتهاء الانتخابات وصدور النتائج، وعلى الرغم من كلّ الاعتراضات التي قدمها حيال ذلك، يمكننا القول أنّ الهزّات التي أحدثها ترامب في الروتين السياسي الأمريكي قد خمدت وهدأت. وبالتالي يمكننا الآن أن نتوقع من بايدن الذي كان حاضرًا في كلّ مستويات السياسة الأمريكية على مدار 40 عامًا، أن يقوم بإزالة كل الحطام الذي ورثه عن ترامب منذ فترة طويلة. وفي سياق ذلك يمكن أن نفهم قيام بايدن في اليوم الأول من رئاسته بالتوقيع على قرارات العودة لعدة اتفاقيات دولية كان ترامب قد انسحب منها،. لا سيما توقيع بايدن فورًا على قرار يقضي برفع حظر السفر الذي فرضه ترامب على بعض الدول المسلمة، ويمكن اعبتار ذلك خطوات باعثة للأمل.

ختامًا، يجدر القول أن خسارة الولايات المتحدة بشكل فادح لمكانتها في المنطقة، من خلال سياستها إزاء الشرق الأوسط وتركيا، لم تكن نتيجة حقبة ترامب وحده في الواقع. بل الأمر مرتبط أيضًا بحقبة أوباما التي دامت 8 سنوات، والسياسة التي اتبعها إزاء سوريا وفلسطين والربيع العربي، حيث سلكت مسارًا يتنافى مع قيم الولايات المتحدة التي تدّعيها وكذلك مع مزاعم قيادتها للعالم. ولذلك نقول؛ إذا كان بايدن يمتلك بالفعل سياسة استراتيجية للزعامة الأمريكية، عليه إذن -إلى جانب الحطام الذي خلفه ترامب- أن يواجه أيضًا الحطام الذي خلفه سلفه وابن حزبه، الرئيس السابق أوباما.

#أوباما
#ترامب
#بايدن
#الولايات المتحدة
3 yıl önce
الحطام الذي خلّفه أوباما قد خلفه ترامب لبايدن
انهيار مشروع الإرهاب التوسعي
الخنازير لا تتغذى على الكتب المقدسة
لا مفر من حرب عالمية
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة