|
الظروف الاجتماعية للدستور

من سوء حظ "القانون الأساسي" في الدولة العثمانية أنه لم يأت في مرحلة صعود هذه الإمبراطورية العظيمة، بل على العكس تزامن مع مرحلة تفكّكها، في وقت كانت فيه ضمن تراجع متواصل، وعرضة للتدخلات الخارجية، وفقدان مستمر للمكاسب أمام الخصوم والمنافسين. وأمام الهزائم والاضطرابات التي كانت تحيط من كل حدب وصوب بالإمبراطورية العثمانية العظيمة التي كانت على وشك إكمال 6 قرون من عمرها؛ كان الجميع يحمل مخاوف عدة على صعيد تشخيص هذا المسار السيء وإيجاد علاج له.

كان الوزير سعيد حليم باشا يرى أن هذا الوضع المقلق قد تسبب بخلق بيئة من الأخطاء الجسيمة لمثقفي الدولة العثمانية ومسؤوليها. ولقد كان الخطأ الأكبر لهؤلاء -بنظر حليم باشا- هو أنهم كانوا يلصقون بالدولة العثمانية العلل الخاصة والمتأصلة بهم. وحينما كانوا يحاولون معالجة هذه العلل، راحوا يبحثون في كتب "الطب" عن طريقة علاج، بدل أن يتعرفوا على أنفسهم ومكامن عللهم. وإن نسبة كل علة وجدوها في الكتب التي قرؤوها لأنفسهم، كان يشير إلى مدى الحالة الروحية المعكّر صفوها التي كانت تسكنهم.

ولقد كان السبب الأهم لهذه الحالة الروحية المعكّر صفوها، هو عدم قدرتهم على "الوصول إلى جوهر الأمر" للتعرف على أنفسهم. وبمعنى آخر، ابتعدوا عن أقصر الطرق التي تأخذهم نحو التعرف على أنفسهم، بل وضعوا فيما بنيهم وبينها عينًا غربية أو عدسة أو ستارة من النوع ذاته.

تكمن المشكلة في أن المثقفين ومسؤولي الدولة العثمانية الذين أُرسلوا إلى أوروبا للتعرف على الغرب، والحصول على المعرفة والتقنية، استعاروا عينًا من هناك للنظر من خلالها، ولذلك حينما كانوا يريدون التعرف على أنفسهم وتشخيص حالتهم وعللهم؛ كانوا ينظرون من تلك العين الغربية. وبسبب ذلك لم يتمكنوا من ملامسة الأحداث التي وقعت على "جسدهم" بالمعنى المجازي؛ بناء على الانطباعات النابعة من الألم الذاتي الذي يشعرون به، بل لامسوها من خلال استنتاجات الكتب التي قرؤوها بالعين الغربية تلك.

"على سبيل المثال، كنا نأمل أن يكون هذا القانونُ الأساسي الحلَّ السحري لجميع مشاكلنا، أن يتمتع بقوة خارقة من شأنها إحداث نقلة نوعية لوضعنا السياسي والاقتصادي بين عشية وضحاها، وإحداث تغيير سحري بمجرد لحظة إعلانه، ويجعلنا فجأة ننسى جميع خلافاتنا، وأن يوحدنا جميعًا ضمن عائلة عثمانية نجيبة عظيمة لا تفكر إلا بمجد وعظمة الوطن العثماني. إلا أن جميع هذه الأمنيات الجميلة والأحلام السعيدة سرعان ما تبددت منذ السنة الأولى لإعلان هذا الدستور. وإن الحقوق والحريات التي منحها لنا القانون الأساسي لم تسفر عن أي شيء سوى مزيد من عاداتنا السيئة التي كنا نطبّقها دون تردد، والتي زادتها إدارة السلطان عبد الحميد بشكل كبير. بيد أن الجميع كان يأمل بمزيد من السلام والأمن، لكن الواقع كان عكس ذلك؛ حيث تفاقمت حالة انعدام السلام، وبات الجميع يجد نفسه أسوأ بكثير مما قبل. وما ذلك إلا لأنهم حينما وجدوا في أنفسهم الجرأة بشكل أكبر، قاموا بالتعدي على حقوق الآخر دون أي وازع. كما زادت الخلافات والصراعات والخصومات على أساس العرق والقومية، بشكل لم يتبقّ فيها للعثمانية أيُّ قاسم مشترك يمكن الاتحاد عليه".

بيد أنّ القانون الأساسي كان هدفه النهائي هو توفير الوحدة الاجتماعية، وحسب التعبير المشهور للعلوم السياسية؛ لم يكن هدفه إلا ضمان سلامة الجسد السياسي وصحته بأفضل الأشكال.

إنّ الجسد المتقدم بالسنّ يكون عاجزًا عن التحرك بسهولة، إلا أنّ مداخلة ما ربما تساهم في استعادته لصحته، والحصول على سلامته من جديد. إلا أنّ ذلك لا ينطبق على القانون الأساسي الذي كان "تجربة سيئة" حسب حليم باشا، الذي كان يرى أن هم سبب لذلك هو؛ "إرداتنا القيام بأشياء تضر بنا، وتعتبر مستحيلة من حيث تحقيقها. لأننا لا نستطيع أن نستفيد من أفضل وأقوى عناصرنا الذانية، لأنه بينما من الصعب أيضًا الاستفادة من الابتكارات السيئة والحمقاء التي يتمّ تمريرها نحو البلاد باستمرار تحت اسم الإصلاح، فإننا في الوقت ذاته نضيّع جهود وتعب أفضل رجالنا/عناصرنا الذاتية من خلال أجبارهم على الانشغال بالمستورد. وما ذلك إلا لأنّ المصلحين لدينا لم يفهموا على الإطلاق أنّ الناس لم يتمّ إنشاؤها من أجل القوانين والأنظمة، بل على العكس؛ تم وضع القوانين والأنظمة لأجل الناس".

وفقًا لسعيد حليم باشا، فإنّ سبب جميع هذا الفشل والتضارب كان ينبع من أنه كان ترجمة لروح القانون الأساسي. كان الوضع السياسي والاجتماعي للبلاد لا يمكن أن يتوافق مع روحها ومعتقدها وعاداتها بأي شكل، والأسوأ من ذلك هو عدم التعامل مع ذلك على أنه تهديد للوجود القومي العثماني. لأن أولئك الذين صاغوا القانون الأساسي وحاضروا به على الجميع، لم يكترثوا لهذا الوطن على الإطلاق، حيث كانوا يتوهمون بأن بعض المعرفة المتناثرة والنظريات التي بقيت بطريقة ما في ذاكرتهم ستجلب السعادة للبلاد. وانطلاقًا من هذا الوهم، كان أيّ عمل يمكن أن يصدر عنهم كإنجاز لن يكون في نهاية المطاف أكثر من عمل فاقد لقيمته وبعيد عن الحقيقة، عدا أنه سيظل عبارة عن تقليد غير مكتمل تم استيراده من الدساتير الغربية.

وبالتالي، ووفقًا لحليم باشا كذلك؛ لم يكن السبب الوحيد والأهم لفشل مشروع القانون الأساسي سوى؛ "الاعتقاد بأن قبول واستيراد القوانين والمؤسسات الأجنبية سيوفر الابتكار والتطوير اللذين نحتاجهما".

إن الدستور قبل أي شيء هو عقد بين عناصر المجتمع الواحد، الذين يتحركون من داخل المجتمع ولغته وحقائقه وواقعه دون الاعتماد على عناصر خارجية أخرى. كان من المستحيل بطبيعة الحال أن يتمّ تأدية العمل الدستوري على وجه كامل، من خلال مناقشة ذلك بين طبقة من المسؤولين فيما بينهم بأوهام وأفكار غربية لا محلية، لا تعبر عن المشاكل النفسية الخاصة. كان من المستحيل تحقيق ذلك دون وجود نقاش أو حوار بين أفراد المجتمع ذاته.

بالطبع ليست هذه الظروف الاجتماعية الأوحد التي يتطلبها أي دستور. بل إن سعيد حليم باشا كان يقدم ذلك للفت الانتباه للظروف الاجتماعية التي لم تتم مراعاتها مع القانون الأساسي، والتي كانت تكمن في عدم التفريق بين طبيعة المجتمعات الأوروبية والعثمانية.

لا شك أن هذه الالتفاتات لا يمكن إغفالها أو نسيانها. وللحديث بقية.


#الدولة العثمانية
#تركيا
#ياسين أكتاي
#القانون الأسياسي
3 yıl önce
الظروف الاجتماعية للدستور
انهيار مشروع الإرهاب التوسعي
الخنازير لا تتغذى على الكتب المقدسة
لا مفر من حرب عالمية
مئتا يوم من وحشية العالم المنافق
العلاقات التركية العراقية.. خطوة نحو آفاق جديدة