
تناولت كافة الوسائل الإعلامية النقاط التي ركز عليها وزير الدفاع، يشار غولر، في اجتماع التقييم السنوي، ولا سيما العناوين التي تطرّق فيها إلى ملف "قسد" والشأن السوري.
بيد أن القراءة الوحيدة للوزير غولر التي لم تسلط عليها الأضواء الكافية، هي تلك العبارات التي صاغها انطلاقًا من «وثيقة استراتيجية الأمن القومي» الأمريكية. مع أن هذه العبارات تحديدًا هي التي تُشكّل المشهد التركي والإقليمي، حاضرًا ومستقبلًا، حيث قال:
"لقد أعلنت الولايات المتحدة مؤخراً عن وثيقة إستراتيجيتها الجديدة. وثمة موضوع نردده نحن منذ 6 إلى 8 سنوات؛ وهو أن التهديد بالنسبة للولايات المتحدة لم يعد في الشرق الأوسط، ومكانه بات معروفاً. وأعتقد أن أصدقاءنا الأمريكيين قد أدركوا أنه عندما تنسحب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، فإن القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على إرساء السلام والاستقرار في المنطقة هي تركيا. وأؤمن بأن هذا الوضع سيعزز من الفاعلية الإقليمية والإستراتيجية لبلادنا".
هذا هو الأمر برمّته..
إنها واحدة من أبسط الصيغ التي تشرح مقولة: "بينما نسير نحو نظام عالمي جديد، ستواجه تركيا مخاطر وفرصًا في آنٍ واحد". ومن الواضح أن هذا التقييم يحظى بقبول من الجانب التركي. وبطبيعة الحال، فإن استثمار الفرص وإزالة المخاطر يفرضان جدولًا زمنيًا وقائمة مهام واضحة. إنها خطة مشتركة ومنسّقة ومتزامنة…
والسبب في ذلك أن المسألة لا تقتصر على الشرق الأوسط فحسب، بل يجب أن "تتكامل" أيضاً مع ملفات شرق المتوسط، والبحر الأسود، وبحر قزوين، وآسيا الوسطى/الجمهوريات التركية، وكذلك مع منطقة الخليج. والسبب هو أن "مكان التهديد بات معروفاً".
وبالطبع، حين تصف نفسك بأنك "القوة الوحيدة" القادرة على إرساء النظام والاستقرار في الشرق الأوسط بعد انسحاب الولايات المتحدة، فستجد دولا تعارض هذا الطرح بردود فعل تلقائية، دون النظر إلى الحقائق الجيوسياسية. وعندما تُدلي بهذا التصريح وتُطلق في الوقت نفسه مشروعك لحاملة طائرات بطول 300 متر، فإن كثيرًا من الدول، سواء فهمت الموضوع أم لم تفهمه، ستتساءل: "ما الذي يحدث؟"… وهذا ما يحدث بالفعل.
اليونان، وقبرص اليونانية، وإسرائيل، وإيران، وربما ـ بحسب مآلات ونتائج الحرب الأوكرانية ـ روسيا، بل وحتى فرنسا… إضافة إلى أطراف أخرى تلتزم صمتاً مريباً، ونحن نعلم ذلك.
لا ضير في ذلك..
إن القراءة ذاتها تقود إلى فكرة مفادها أن "حين تترك الولايات المتحدة الجديدة تركيا خلفاً لها في المنطقة وتستأمنها عليها، فإنها ستقدم حلولاً ودعماً يعزز من أوراق أنقرة". لا يمكننا الجزم بأن هذا هو الدافع الوحيد لتخفيف العبء عن أنقرة، لكن المسار العام يسير على هذا النحو…
ويشمل ذلك ملفات "قسد/واي بي جي"الإرهابي، وسوريا، وإسرائيل، وفلسطين وغزة، واليونان، وقبرص، وغيرها، وبالطبع الاقتصاد. فعلى سبيل المثال، رفع العقوبات من أجل تمكين إدارة دمشق من تحقيق الاستقرار، أو قيام دول الخليج بتسوية بعض ديون سوريا، وتسهيل تنفيذ مشاريع إقليمية كبرى لإعادة الإعمار في أجواء يسودها الهدوء.
ولم تعد الولايات المتحدة راغبة في استخدام أموالها كما في السابق، ولا هي في وضع يسمح لها بذلك أصلًا. لذا، فهي بحاجة إلى مشاريع تدر الأموال وتضمن تدفقها أثناء معالجة الأزمات الحرجة في الشرق الأوسط.
دعونا نؤكد على ترابط مقالاتنا الثلاث الأخيرة في هذه السطور؛ فمن الأهمية بمكان الحفاظ على اتساق الرؤية رغم قراءة المشهد من زوايا وأزمنة مختلفة، وإلا فلن نتمكن من استشراف القادم؛ بدءاً من: "ضرورة البدء برسم حدود مناطقنا" (17/12)، وصولاً إلى تساؤلنا: "هل تسلمنا "إخطار" أمريكا بتسليم عهدة الناتو للأوروبيين؟" (20/12).
بالتأكيد لم تنسوا مشروع "ريفيرا" ؛ الخطة الأمريكية التي كانت تهدف لـ "إحياء" غزة وفلسطين بوعود مالية ضخمة، والتي قوبلت بردود فعل غاضبة في المنطقة. والآن، برزت نسخة محدثة ومبرمجة تحت اسم مشروع "شروق الشمس" (Sunrise).
وبحسب صحيفة وول ستريت جورنال، فإن هذا المشروع الذي تبلغ قيمته 112 مليار دولار، والذي يُوصَف بأنه "المرحلة الثانية" من خطة السلام للرئيس الأمريكي ترامب، أُعِدّ خلال 45 يومًا على يد فريق يقوده جاريد كوشنر والمبعوث الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف. بمعنى أن "الجهة المنفذة" لم تتغير. ووفقا للصحيفة، فقد عُرض المشروع أيضًا على تركيا ومصر ودول الخليج.
وهذا أمرٌ مؤكد.
"تجري الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات محادثات حول استخدام احتياطيات الغاز الطبيعي الفلسطيني – المقدرة بنحو 38 مليار متر مكعب – في إطار خطط "إعادة الإعمار". ويرى الخبراء أن هذه الاحتياطيات قد تدر على فلسطين نحو 4 مليارات دولار" (صحيفة حريت، 22/12، تحت عنوان: غاز غزة على طاولة إعادة الإعمار).
إن مبلغ 4 مليارات دولار قد لا يعني الكثير للاعبين الكبار في المنطقة، لكنه رقم ضخم بالنسبة لفلسطين. ولكن المعنى الحقيقي لفكرة استغلال الغاز يتضح جلياً عند ربطها بمشروع "شروق الشمس"؛ وهنا تكمن "الاستمرارية" التي نتحدث عنها. فعندما يتقاطع هذان المشروعان مع اتفاقية الغاز المصرية الإسرائيلية، ثم يندمجان مع "المصافحة" الإستراتيجية في ملف الطاقة بين اليونان وإسرائيل وقبرص الرومية، وبدخول الولايات المتحدة وشركة "شيفرون" على الخط، وإضافة الغاز في المياه السورية إلى المعادلة.. عندها فقط تتضح الصورة الكاملة.
وهذا كله ليس إلا جزءاً من مشهد أكبر؛ فقد صرح نتنياهو قائلاً: "لقد أتممنا البنية التحتية والاستعدادات لطريق التجارة الذي سيمتد من الهند إلى إسرائيل -(عبر أي دول سيمر؟)- ومنها إلى اليونان عبر قبرص". وهذا الطريق يعني باختصار الوصول إلى "أوروبا".
وكان رئيس جهاز الاستخبارات التركي ووزير الدفاع ووزير الخارجية في زيارة إلى دمشق يوم الاثنين. وفي الوقت نفسه، كان يجري على الجانب الآخر من الحدود اجتماع ثلاثي يضم اليونان وقبرص الرومية وإسرائيل. وفي المساء، اندلعت اشتباكات بين قسد والجيش السوري في حلب.
هل يمكن لـ"قسد" أن تحافظ على وجودها في المنطقة دون الاندماج مع دمشق؟ وهل من الممكن لأوروبا مواصلة حرب أوكرانيا وفقاً لهذا السيناريو والنموذج؟
وبينما لا تزال تصريحات الأمين العام للناتو، ورئيس أركان بريطانيا، ورئيس الاستخبارات الأوكرانية، والمسؤولين في برلين، تدفع باتجاه استمرار الحرب -وتعمل وكالات الأنباء الأوروبية على تضخيمها- تزعم كييف أن روسيا قدمت موعد خطتها لغزو أوروبا من عام 2030 إلى 2027، وأنها ستبدأ هجومها بليتوانيا وإستونيا ولاتفيا. وفي خضم ذلك،تأتي عملية اغتيال جنرال روسي..
لكن مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية، تولسي غابارد، ترد على الجميع قائلة: "إن الناتو والاتحاد الأوروبي يسعيان إلى جرّ الجيش الأمريكي إلى حرب مباشرة مع روسيا". والسؤال: هل يريدون جرّ تركيا إلى ذلك أيضًا؟
سنواصل الحديث..
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة