
الخياطة مهنة عريقة يُعتقد أن شيخها الأول هو النبي إدريس عليه السلام. جيلي — وقبله أجيال كثيرة — يتذكّر الأسواق في المدن والبلدات وقد امتلأت بورش الخياطة. كان الخياطون يستقبلون زبائنهم بلفّات القياس المعلّقة على أعناقهم، وبوسائد الإبر المثبّتة على سواعدهم، وبالخواتم المعدنية في أصابعهم لحماية أيديهم أثناء العمل. وعلى الجدران تُعلّق المقصّات الكبيرة، والمساطر، وأدوات القياس. أما الطاولات فكانت تفترشها الأقمشة المختلفة، وعليها علامات صغيرة من قطع الصابون تدلّ على مواضع القصّ. وكانت هناك دائمًا طاولات الكيّ ومكاوٍ — وبعضها يعمل بالفحم — إضافة إلى ماكينات الخياطة التي كانوا يعدّونها مصدر رزقهم، ويعلّقون عليها الخرزة الزرقاء لدفع الحسد. وفي أحد الجدران مرآة طويلة، ويُقاس الزبون عادة وهو واقف، ثم تُدوَّن القياسات بعناية في دفتر خاص.
كان بعض الخياطين يعمل منفردًا، وبعضهم معه مساعدون وتلاميذ. وعلى الطاولات مجلات للموضة، لكنها كانت أقرب للزينة؛ فالموضة لم تكن تتغيّر كثيرًا. النماذج معروفة، والقوالب ثابتة، والناس يسلّمون أجسادهم لخبرة الخياط. بعد القصّ لا يبدأ الخياط الخياطة مباشرة؛ بل يثبّت القطع أولًا بخيوط مؤقّتة ثم يجري تجربتين على الأقل على جسد الزبون، يصحّح ما يحتاج، ثم يُخيط الثوب ويكويه ويضعه على علاقة حتى يأتي صاحبه فيسلّمه إياه. بل إن الخياطين تخصّصوا: هذا لخياطة النساء، وذاك لخياطة الرجال.
وكما قيل: «اختُرع السلاح الناري فتبدّلت المروءة»، كذلك ظهرت صناعة الملابس الجاهزة فداست ورش الخياطة كما تدوسها أسطوانة ضخمة. لم يبقَ إلا القليل — أبرعهم وأكثرهم حيلة — بينما أُغلقت البقية. الفرق بين الخياطة والملابس الجاهزة أن الأولى تفصيل فردي على الجسد نفسه، أمّا الثانية فهي إنتاج جماعي يعتمد مقاسًا عامًا. لذلك تُفرض في الملابس الجاهزة مقاسات واحدة على أجساد شتّى؛ فهي أشبه بنظام قسري. أما الخياطة فتنظر لكل جسد بوصفه حالة مستقلة. ولهذا نادرًا ما يكون الثوب الجاهز مطابقًا تمامًا للجسد، لأن الأكتاف أو الأكمام في كثير من الأحيان لا تتوافق مع المقاس المفروض.
صحيح أن الخياطة كحرفة تكاد تكون قد اندثرت، لكنها بقيت حيّة في اللغة، تُغذّي التشبيه والرمز. أذكر أن الراحل شريف ماردين قال في مقابلة له في التسعينيات: «أنا خياط معرفة؛ أجمع المعلومات المبعثرة وأخيطها لأصنع منها ثوبًا». هذا التشبيه أثّر فيّ كثيرًا.
ومؤخرًا نبّهني صديقي العزيز البروفسور إسكندر بالا إلى أن أحد أشهر أبيات يونس أمره جرى تداوله خطأ. فالسطر المعروف «العلم هو العلم» أصله «العلم غرزةً غرزة»، أي إن المعرفة — عند يونس — تشبه خياطة دقيقة تتكوّن من غرز متتابعة.
الملابس الجاهزة — بطبيعتها — امتداد حديث لفن الخياطة القديم. ولا أريد أن يُفهم أني أزدريها؛ فالمعارف أحيانًا تحتاج إلى تنظيم سريع ومُهيكل يشبه الإنتاج الجاهز. أذكر مناظرة أواخر التسعينيات شارك فيها الراحل محمد شفيق إيجي. انتقد أحد المشاركين كلامه بحدّة، فابتسم إيجي وقال: «لقد خاطتُ ثوبًا دون أن أقيسه على جسد بعينه، لكن يبدو أن هذا الرجل أعجبه الثوب، فليأخذه؛ هو حلال عليه». هذه الحكاية أثّرت فيّ كذلك. ويبدو أن خياطة المعرفة تتحوّل في مرحلة ما إلى نمط أقرب إلى “الجاهز” حين يُراد نقل المعرفة إلى حكمة عامة يتشاركها الناس.
لكن أين تقف الخياطة اليوم؟ يبدو أننا تخلّينا عن التفصيل اليدوي كما تخلّينا عن الإعداد الجاهز أيضًا. التاريخ نفسه لم يعد «يلتحم» كما كان؛ نكتفي بخيوط مؤقّتة، ثم تتمزّق القطع. كما ابتعدنا عن القاعدة التي تجعل كل جزء منسجمًا مع الكل. صرنا نقتطع بلا نظام، ونخيط كيفما اتفق بمنطق «الترقيع». وكان الترقيع قديمًا علامة فقر، لا يُلام صاحبها لكنها كانت محطّ خجل. أما اليوم فقد صار «فنّ الترقيع» موضة. كانت الملابس الجاهزة ثورة دفنت الخياطة، أما اليوم فموضة الترقيع باتت ثورة معاكسة.
العالم الليبرالي يواصل تقديس الحرية والإبداع بصورة لافتة، حتى صار كل جديد يُقدَّم باعتباره هدمًا لكل ما يشي بالقدم والاستقرار. لم يكن التمرّد يومًا غاية بذاته كما هو اليوم. والآن وصلنا إلى مرحلة لم نعد نخيط فيها حتى «الخيط المؤقّت»؛ القطع تتطاير منفصلة، والمقاسات لم تعد مهمّة — المهم الألوان. فالألوان الهادئة تُهمَل، بينما تتقدّم الألوان الصارخة. الأجندات تُصنع وفق لحظات متقطّعة بلا عمق؛ تُزاح القضايا العميقة التي تحتاج تفكيرًا متّزنًا كالخياطة الدقيقة، لتتقدّم الأحداث السطحية الطارئة والمثيرة. الخبر يتراجع، والحدث العابر يطغى.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة