الوحدة الإسلامية.. قضية تخص المسلمين وحدهم

08:1429/12/2025, Pazartesi
تحديث: 30/12/2025, Salı
ياسين اكتاي

حين نتحدث اليوم عن حالة الوهن التي يبديها العالم الإسلامي - بتعداده البالغ ملياري نسمة - في مواجهة كيانٍ إسرائيلي مُختلَق لا يتجاوز الستة ملايين، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو التساؤل عمّا إذا كان هناك أصلًا "عالم إسلامي"؟ فإذا كانت فلسطين "قضية عربية"، فكيف للعالم العربي الواسع ألا يشعر بالمهانة تجاه هذا العدوان السافر والانتهاكات المستمرة؟ إن قصيدة الشاعر نزار قباني، التي صدحت بها الفنانة اللبنانية جوليا بطرس متسائلة "وين الملايين؟"، مثلت صرخة تمرد قوية ضد حالة اللامبالاة والعمى السياسي. ورغم

حين نتحدث اليوم عن حالة الوهن التي يبديها العالم الإسلامي - بتعداده البالغ ملياري نسمة - في مواجهة كيانٍ إسرائيلي مُختلَق لا يتجاوز الستة ملايين، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو التساؤل عمّا إذا كان هناك أصلًا "عالم إسلامي"؟

فإذا كانت فلسطين "قضية عربية"، فكيف للعالم العربي الواسع ألا يشعر بالمهانة تجاه هذا العدوان السافر والانتهاكات المستمرة؟

إن قصيدة الشاعر نزار قباني، التي صدحت بها الفنانة اللبنانية جوليا بطرس متسائلة "وين الملايين؟"، مثلت صرخة تمرد قوية ضد حالة اللامبالاة والعمى السياسي. ورغم أن هذا التمرد يعبر دوماً عن سخط الشعوب العربية تجاه حكامها، إلا أنه لا يترك أدنى أثر في هؤلاء الحكام. فلماذا؟ وهل ثمة من يجهل الجواب؟

أما إذا كانت فلسطين قضية "العالم الإسلامي"، فالأمر هنا أشد وطأة وخطورة؛ إذ يشعر نحو ملياري إنسان -مع كل طفل يُقتل في غزة، ومع كل تجاوز للحدود، ومع كل انتهاك للمقدسات- بأن وجودهم الشخصي يُسحق، فيتجرعون مرارة الألم والارتباك والخزي.

ولكن هل يشعر جنود العالم الإسلامي بملياريه حقاً بنفس الألم والخزي؟ هذا محل جدل. فنحن نميل بسهولة للفصل بين الشعوب والحكام، لكن الحقيقة أن هذه الشعوب هي نتاج الأنظمة التي تشكلت في القرن الماضي؛ شعوبٌ درّبتها دولها على عملية "تنميط وطني"، فلم تعد تكترث لما يحدث خارج حدودها الضيقة. فليس ثمة فروق إثنية أو دينية جوهرية بين شعوب سوريا والأردن والعراق ولبنان والكويت؛ ولكن كل منها -داخل الحدود التي رسمها "سايكس-بيكو" قبل قرن- قد حُفِّظت درساً من قِبل حكامها بأنها "أمة" مستقلة تماماً عن الأخرى. واليوم إذا تحدثت عن "وحدة المسلمين"، ستجد داخل كل دولة من هؤلاء كتلة ضخمة تعارض الفكرة. إن هؤلاء قد استبطنوا "العقلية الاستعمارية"، أو بتعبير مالك بن نبي، عقلية مهيّأة للاستعمار، وهو أمر يتسق مع طبيعة التكوين الذي خضعوا له.

وحين نشكو اليوم من غياب فاعل سياسي عالمي يعترض باسم الإسلام، على ما يتعرّض له المسلمون، فليس من المستغرب أن يسارع البعض إلى اتخاذ هؤلاء الحكّام، وتلك الشعوب التي هم نتاجها، ذريعة لتبرير اللامبالاة والعجز. فهؤلاء تربّوا على ادعاء مفاده أن إلغاء الخلافة كان مكسبًا عظيمًا لتركيا. ومن المؤكد أنهم لم يتوقفوا يومًا للتفكير في معنى هذا الادّعاء. ولم يسأل أحد نفسه: أين المكسب في التنازل عن صفة كانت تجعلنا، بصورة أو بأخرى، قادةً للعالم الإسلامي؟ وهل يعقل أن يكون هذا التخلّي في مصلحتنا، وليس في مصلحة أعدائنا؟ وما إن يُفتح هذا النقاش حتى يسارعوا إلى الحديث عن عجز الخلافة آنذاك وفقدانها لفاعليتها.

انتشر مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع قصير من لقاء قديم لي (أعتقد أنه كان في مايو 2022) في برنامج "الطاولة الحمراء" الذي يقدّمه محرم جوشكون على قناة "Akit TV". كان محور الحديث حينها هو الاعتداءات التي يتعرض لها المسلمون في فلسطين، وميانمار، وكشمير، والهند، وفي بقاع شتى من العالم. وكالعادة، وصل النقاش إلى التساؤل المعهود: ماذا يفعل مليارا مسلم تجاه كل هذا؟ غير أن الجواب كان، في الحقيقة، واضحًا دائمًا: إن الشعوب التي تعجز عن تشكيل وحدة فيما بينها، ولا تتعاطى مع قضاياها من منطلق إسلامي، ولا تجعل من الإسلام سبباً لوجودها لتقديم كيان منظم.. لا فرق إن كان عددها مليارين أو عشرة مليارات. إن وجود "العالم الإسلامي" كفاعل سياسي لا يتجسد إلا عبر منظومة تتخذ من الإسلام مرجعاً وعلةً لوجودها.

إن التعليقات التي كُتبت أسفل هذا المقطع لم تكشف فقط عن الحفظ العاطفي المناهض للخلافة منذ قرن فحسب، بل كشفت كذلك بوضوح، عن كراهية متجذرة للإسلام.

وبالطبع، هناك من يخلط الأمر ببعض الحجج وخرافات التاريخ المغلوطة. فمثلا، هناك مقولة تقول: "بينما كان العرب يثورون ضد الدولة العثمانية ويدعمون البريطانيين في الحرب العالمية الأولى،كانت الخلافة قائمة، وكان هناك خليفة. أليس في ذلك تمرّدٌ على الخليفة؟ وإذا كانت مؤسسة الخلافة قد انتهى دورها ولم تستطع، حتى في تلك الأيام العصيبة، أن تجمع المسلمين، فكيف يُنتظر منها أن تنفع اليوم؟» وهذا القول يُعبّر عن تصوّر تاريخي مشوه لا يزال حاضرًا بقوة.

يبدو أن أصحاب هذا الطرح يتوهمون أن الشرق الأوسط بأكمله تمرّد على الدولة العثمانية ودعم البريطانيين في الحرب العالمية الأولى. لكن الحقيقة التاريخية تخبرنا بعكس ذلك تماماً؛ فطوال سنوات الحرب الأربع، ظلت الغالبية الساحقة من شعوب الشرق الأوسط وفية لـ "دولتها" (الدولة العثمانية) حتى الموت، وقاتلوا جنباً إلى جنب مع الجيش العثماني في كافة الجبهات.

أمّا نقطة التحول في مصير الحرب فقد وقعت في الشهر الأخير من تلك السنوات الأربع، وفي تلك اللحظة تحديدًا كان نصيب العرب الذين تمرّدوا في مسار الانهيار أقلّ من واحد في المئة من حجم أخطاء بعض الضباط العثمانيين أو حساباتهم السياسية.

لم تكن الخلافة يوماً مؤسسة "انتهت صلاحيتها"، بل كانت قوةً ذات تأثير دولي هائل، وهو أكثر ما أرق البريطانيين وأرهقهم. ولا يزال الدعم الذي قدمه مسلمو الهند آنذاك أسطورةً تُروى؛ فبأموالهم تم تمويل "حرب الاستقلال" التركية، وما تبقى منها كان نواة لتأسيس "بنك العمل" (İş Bankası). لم تُلغَ الخلافة لأنها فقدت فاعليتها، بل لأنها كانت تمنح تركيا القدرة على قيادة العالم الإسلامي ضد الإمبريالية، وهو ما اعتبره الخصوم خطراً داهماً. أما كل الذرائع التي سيقت لاحقاً، وكل الخطابات التي رُوّج لها، وتلك العبارات المحفوظات الجاهزة التي ما زالت تُكرَّر حتى اليوم بلا أدنى تفكير، فما هي إلا أوهام أيديولوجية صُنعت لتبرير ذلك التنازل الكبير.

نحن لا ندّعي أن المسلمين لم يواجهوا مشكلات إبان عهد الخلافة، أو أن بقاءها كان سيمنع وقوع الأزمات تماماً. كما أن القضية اليوم ليست في "إعادة التأسيس" كمنصب، بل في عجز العالم الإسلامي عن لمّ شتاته واستعادة وحدته وتلاحمه.

إن هذه المسألة في جوهرها، قضية المسلمين وحدهم. ولا يمكن لمن لا يرى نفسه جزءاً من هذا العالم الإسلامي أن يستشعر هذه المشكلة. ومن المفارقات العجيبة أن أكثر المعترضين على هذا الطرح هم بالأساس ممن لا يعتبرون أنفسهم جزءاً من "الأمة الإسلامية".

وقد شاركت عائشة هور في هذا النقاش مستندة إلى مقال كتبته قبل خمس سنوات، أشارت فيه إلى أن الألمان، خلال فترة التحالف معهم، أدركوا أن الخلافة تمثل قوة كبرى، ورأوا أن فتوى جهاد يصدرها الخليفة يمكن أن تكون ذات أثر بالغ.

وهذا يثبت بوضوح أن الخلافة كانت "قوة عظمى"، هذه هي الخلاصة التي ينبغي التوقف عندها، لا الادعاء بأن الخلافة أو الجهاد كانا من صنع الألمان، وهو أمر غير صحيح أصلًا. إنما الذي حصل هو أن الألمان أدركوا جيداً ذلك النفوذ الكامن وتلك القوة الجبارة. ونحن هنا لا ندافع عن دخول الحرب العالمية الأولى بجانب الألمان، ولا بجانب البريطانيين أو الفرنسيين؛ فمن زجَّ بالدولة العثمانية في ذلك المستنقع هم ضباطها ورموز "الاتحاد والترقي" و"الماسونية" الذين انقسموا حينها موالين لبريطانيا وموالين لألمانيا.

وبينما كانت الحرب مستعرة، كانت الشعوب المسلمة (أتراكاً، وأكراداً، وعرباً، وهنوداً، وأفارقة) تقاتل ببسالة باذلةً أرواحها في سبيل الخلافة، بينما كان الضباط والنخب الحاكمة يولون ولاءاتهم الخارجية (البريطانية أو الألمانية) أهمية تفوق انتماءهم هذا. إن الذي أسقط الدولة العثمانية لم تكن الشعوب التي آمنت بالخلافة وقدمت الغالي والنفيس في سبيلها، بل أسقطتها تلك الحسابات والولاءات الخارجية للنخب. فهل هناك من لا يدرك هذه الحقيقة حتى الآن؟


#الوحدة الإسلامي
#الدولة العثمانية
#تركيا
#الغرب
#الخلافة
#الإسلام
#الدول العربية